هل تحبون أعماركم «1»؟!
سؤال قد يبدو ساذجا، فما من أحد إلا ويحب عمره، فغريزة حب البقاء من أقوى الغرائز في الإنسان. لكن سؤالنا ليس عن هذا المستوى من الحب الذي هو مشترك بين الجميع. سؤالنا عن الحب الذي يدرك تماما معنى العمر إدراكا عميقا ينفذ في كل مقطع زمني منه ولو كان «فيمتو ثانية» أي جزءا من مليون مليار جزء من الثانية.
العمر هو مجموعة المقاطع الزمنية المتصلة الممنوحة للإنسان، المجهولة كمّا، والتي ينبغي عليه استثمارها لأداء وظيفته التي خُلق لها. لا أحد منا يعلم كم بقي له من عمر في هذه الحياة، فربما يكون لحظات أو ساعات أو أياما أو شهورا أو سنوات. وهذا الجهل بحد ذاته عامل مهم في حث الإنسان على عدم تضييع أي لحظة في شأن غير مهم، إذ لعل أي لحظة تكون هي الأخيرة.
يظهر الفارق الأساس بين من يحب عمره حقيقة ومن يحبه وهْمًا في كيفية إدارته لعمره، أو ما يسمى بإدارة الوقت. إدارة الوقت في حقيقتها هي إدارة الذات، فبدون أن يجيد الإنسان إدارة ذاته، لن ينجح أبدا في إدارة أولوياته، وبالتالي سيفشل في إدارة وقته وعمره. قد يعمل المرء ساعات أكثر، ويبذل جهدا مضاعفا، ثم يكتشف في النهاية أنه أهدر الكثير من عمره في أمر لا يستحق كل ذلك، وأن هناك أهدافا كبرى أهملها ولم يلتفت إليها. إنه الضياع بين الساعة والبوصلة كما يمثل له ستيفن كوفي في كتابه «إدارة الأولويات.. الأهم أولا». فالساعة - كما يقول كوفي - تمثل مواعيدنا والتزاماتنا وجداولنا وأهدافنا وأنشطتنا، أي كيف ننفق وقتنا ونوزعه؟ أما البوصلة فهي تمثل ما نحمله داخلنا من رؤية وقيم ومبادئ ومهام ووعي وتوجه، أي ما هي الأشياء ذات الأولوية في حياتنا؟ وما هو المنهج الذي ننهجه في إدارة تلك الحياة؟. يأتي التعارض عندما نشعر بالفجوة بين الساعة والبوصلة، أي عندما نجد أن ما نقوم به لا يساهم كثيرا في إنجاز ما نعتبره الأهم في حياتنا.
في دعاء مكارم الأخلاق للإمام علي بن الحسين مقطع يستحق الوقوف عنده طويلا، يسأل الله تعالى فيه مسائل تتعلق بالعمر وإدارته واستثماره. يقول: وَاكْفِني ما يَشْغَلُنِي الاهْتِمامُ بِهِ، وَاسْتَعْمِلْني بِما تَسْأَلُني غَداً عَنْهُ، وَاسْتَفْرِغْ أَيّامي فيما خَلَقْتَني لَهُ.
فالمقطع واضح في طلب استفراغ الوقت في تحقيق الغاية المنشودة وعدم الانشغال بمضيعات الوقت أو صارفاته في غير محله. فإذا لم تكن الغاية واضحة ضاع العمر، وإذا كانت واضحة ولم تتوفر الإرادة للوصول إليها خاب السعي.
أما في دعائه عند الصباح والمساء، فهو يتعامل مع الوقت تعامل الكائن الحي ذي الشعور، فيقول: وَهَذَا يَوْمٌ حَادِثٌ جَدِيدٌ، وَهُوَ عَلَيْنَا شَاهِدٌ عَتِيدٌ، إنْ أحْسَنَّا وَدَّعَنَا بِحَمْد، وَإِنْ أسَأنا فارَقَنا بِذَمّ. اللَّهُمَ صَلِّ عَلَى مُحَمَد وَآلِـهِ وَارْزُقْنَـا حُسْنَ مُصَاحَبَتِهِ وَاعْصِمْنَا مِنْ سُوْءِ مُفَارَقَتِهِ بِارْتِكَابِ جَرِيرَة، أَوِ اقْتِرَافِ صَغِيرَة أوْ كَبِيرَة. وَأجْزِلْ لَنَا فِيهِ مِنَ الْحَسَناتِ وَأَخْلِنَا فِيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ. وَامْلأ لَنَا مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ حَمْداً وَشُكْراً وَأجْراً وَذُخْراً وَفَضْلاً وَإحْسَاناً.
هكذا يعلمنا الإمام زين العابدين أن الوقت يشعر بنا جيدا، ويقيّم إدارتنا له، فمتى نشعر به نحن؟
للحديث بقية..
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.