السيف في مقاربته لنظرية العقد الاجتماعي
الأفكار كمنتج إنساني تمر في تكونها بمراحل عديدة حتى تتشكل في صورتها النهائية أو شبه النهائية. لعلها في ذلك تشبه الإنسان المنتِج لها في تطوره في بطن أمه «خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ». ثم بعد أن يخرج إلى العالم الأرحب يواصل نموه حتى يبلغ أشده ويستوي ليدخل في مرحلة لاحقة.
لو أخذنا على ذلك مثالا نظرية العقد الاجتماعي التي تعد الأساس النظري للسلطة السياسية في العصر الراهن، فإنها لم تولد بين عشية وضحاها، وإنما مرت بالعديد من المخاضات الفكرية حتى بلغت رشدها في صيغتها الجديدة. فكرة العقد الاجتماعي قديمة جدا وضاربة في أعماق التاريخ، في كتابات كثير من المفكرين السوفسطائيين وأيبقورس ولوكر وعلماء القانون الروماني، وفي مجادلات سقراط وأفلاطون. لكنها تطورت وأخذت شكلا جديدا في القرن السابع عشر الميلادي على يد ثلاثة من المفكرين الفلاسفة المهتمين بالشأن العام.
أول الثلاثة كان الإنكليزي توماس هوبز «1588 - 1679». وكأي مفكر آخر يتأثر بالظروف والمعطيات حوله، ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، تأثر بمعاصره الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون ونظرته الميكانيكية للكون، والذي يعتبر «أول من حاول إقامة منهج علمي جديد يرتكز إلى الفهم المادي للطبيعة وظواهرها». كما تأثر بالحرب الأهلية الإنكليزية التي كانت سلسلة من الصراعات المسلحة والسياسية التي وقعت بين البرلمانيين والملكيين بين عامي 1642 و1651.
لذا فإن العقد الاجتماعي عند هوبز - كما يلخصه الدكتور توفيق السيف في كتابه «رجل السياسة» - «هو مجرد تبرير لقيام قوة ردع موحدة تمنع النزاعات الأهلية، وتستمد شرعيتها من حاجة المجتمع إلى الاستقرار». فهو يؤيد السلطة المطلقة للملك، غير أنه لا يرى أنها من مصدر خارج المجتمع كالتفويض الإلهي أو الحق التاريخي، بل إن مصدرها المجتمع نفسه. وفي هذه النقطة بالذات أحدث فجوة في الجدار اتسعت بعده شيئا فشيئا.
بعد هوبز كانت مساهمة الفيلسوف الإنكليزي جون لوك «1632 - 1704» الذي عارض فكرة هوبز عن المجتمع الفطري أو مجتمع الحالة الطبيعية، حيث كان هوبز يرى الإنسان شريرا بطبعه، يميل للبغي والعدوان. فهو، أي لوك، يرى الإنسان بطبعه خيّرا يميل إلى التعاون، ويملك حقوقا فطرية طبيعية كالحق في الحياة والحرية والمساواة، وهي حقوق لا يجوز تجاوزها. ويرى أن العقد الاجتماعي هدفه المحافظة على هذه الحقوق وحمايتها من الاعتداء عليها. يمكننا أن نقول إن جون لوك الذي انحاز للبرلمانيين في صراعهم مع الملكيين، انحاز في عقده الاجتماعي للملكية المشروطة أو الدستورية، متجاوزا بذلك هوبز.
بعدهما شهدت نظرية العقد الاجتماعي على يد الفرنسي جان جاك روسو «1712 - 1778» نقلة نوعية جديدة، حين طور مبدأ «الإرادة العامة» التي اعتبرها أساس مشروعية السلطة؛ عنها تنبثق وإليها تعود. فالسلطة السياسية ليست إلا ممثلا للإرادة العامة للمواطنين، وبالتالي أصبح الحاكم وكيلا مفوضا عن الآخرين يتصرف بموجب توكيله، وليس وفقا لأهوائه.
قدم الدكتور توفيق السيف في كتابه المذكور مقاربة دينية لنظرية العقد الاجتماعي محاولا التوفيق بين مكونات العقد الاجتماعي والقيم الإسلامية. لكن هذه المقاربة لم تنل حظها من المناقشة خصوصا من قبل المختصين في الحقل الديني، كي يتبين مدى قدرتها على مقاومة النقد، ومن ثم حاجتها للتطوير والتعديل، كأي فكرة أخرى. سأذكر هنا بعض أقواله في المقام:
« المصالح العامة التي هي موضوع عمل النظام السياسي ليست من الغيبيات، بل هي قضايا عقلائية، وأنها في الأعم الأغلب ليست من إنشاءات الشريعة الإسلامية، بل من إنشاءات العرف التي أمضاها المشرع، وأن المعيار في وضعها أو رفعها هو تحقيقها للمصلحة المرجوة منها».
«إن القول بخفاء العلل والمصالح لا طائل من ورائه، فتكليف الناس به في معاملاتهم يعتبر تعسيرا يتعارض مع أصالة التيسير الثابتة في الشرع».
«... مبدأ منهجي لكنه مغفل عنه للأسف في البحوث الفقهية، أعني به عدم التكلف في استنباط الأحكام على خلفية أنه لا بد لكل عمل أو سلوك من حكم شرعي ينظمه».
«إن جمهور المسلمين له حق لا يعارضه شرع في تعريف ما يراه مصلحة عامة له، والقيام بها مباشرة، أو تكليف من يقوم بها نيابة عنه».
فهل سنشهد مناقشة علمية جدية لمقاربة الدكتور السيف؟ هذا ما أتطلع له حتى نعيش بحق في مجتمع عالم الأفكار.