خلافات البيت الشيعي... إلى أين؟!

تجاوزت الصراعات الشيعية الشيعية اليوم الحدود المألوفة عادة في داخل البيت الشيعي، ولذا فيمكننا أن نقول في هذا الجو المشحون بالفتن استعدوا للأسوأ ولغير المتوقع، فما يجري ليس استمراراً فقط لمستوى ما كان من صراع ألفناه وعرفناه منذ عقودٍ من الزمن ليكون هو هو جارٍ حتى اليوم بنفس الصيغة ونفس المستوى والمنحى، فواقعاً نحن لم نعهد فيما مضى ومنذ زمن ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم رغم ما كان فيها من جدل ومماحكات دينية على نفس هذا المستوى من حدة الصراع بين أتباع التيارات الدينية وأنصار المرجعيات المقدسة أو بقية التيارات داخل البيت الشيعي الخليجي أقلاً، والشواهد على ذلك حاضرة لمن يعرفها ولمن يتابع مجريات الساحة وما حصل وما هو حاصلٌ اليوم فيها، وهذا يتطلب منا التنبه للخطر الكامن في هذا التحول والنمو في الصراع، فهناك طبيعة متحولة ملحوظة في الصراع، وليس التغير شكلياً فقط كما يبدو لنهنأ ونهدأ وننام.

لقد كان الجدل يحتدم في الماضي في الثمانينات بين هذا وذاك، وتطلق حجة الأعلمية مضافةً لإشكالات الشرعية المرجعية من طرف ضد الطرف الآخر، كما كان في الطرف الآخر من يمس قداسة المرجعية المقابلة ببعض الإشكالات، ككونها مرجعيات صامتة بعيدة عن ممارسة السياسة مقتصرة على فقه الحيض والنفاس أو الطهارة والنجاسة فقط، في زمنٍ مزدحمٍ بالتحديات السياسية والفكرية والأيديولوجية والفلسفية والإقتصادية... الخ، التي تتطلب عملاً فكرياً وفقهياً من نوعٍ مختلف.

لكن الفضاء الإعلامي وأدواته - التي هي بتنوعها أداة واحدة فقط من أدوات الهيمنة وبسط النفوذ في هذا العالم المعاصر - كانت ضد الجميع وبيد الآخرين خارج الدائرة الشيعية في الأعم الغالب حتى وقتٍ قريب، والقوة الشيعية الحقيقية الوحيدة الناشئة القادرة كانت في ذلك الوقت وربما لازالت في أتون صراعات التشكل والبناء والتكوين واختبار الذات في وجه الواقع والتحديات، فلم يكن أحدٌ تقريباً من تيارات المنطقة في الدائرة الشيعية يمتلك قوة إعلامية حقيقية أو يجد حاجة ماسة لقوة إعلامية يوجهها ضد خصومه ويستثير بها الآخرين فيثيرهم ويثيرونه في صراعات التراشق الداخلية «الشيعية - الشيعية» إما لفقرٍ إعلامي ذاتي للوسيلة أو لضعفٍ في قوة الخصوم المقابلة عند من يملكها أو للحاجة للوحدة بدل الفرقة عند هؤلاء أنفسهم جميعاً أيضاً.

لقد كانت جمهورية إيران هي القوة الشيعية الوحيدة المتمكنة القادرة على تفعيل دور إعلامي ضد خصومها لكنها كانت في غناً تام عن دخول أي خصامٍ شيعيٍ - شيعي بل إن العكس كان وما زال في دائرة مصلحتها، وكان شريط الكاسيت وشريط الفيديو ومنشورات ورقية بسيطة ومطبوعات قليلة محدودة التأثير... الخ مضافة إلى المنبر ورجاله هي ربما أقصى ما يحلم به أي تيار شيعي آخر ديني أو غير ديني.

كان المتشنجون من كل فريق ظاهرة حاضرة في الساحة في ذلك الزمن كغيره من العصور إن كانت أجيال اليوم لم تستوعب ذلك، لكن أفراد التطرف كانوا عاجزين حينها عن تسخين وإشعال الساحة بحماقاتهم ضد بعض فوق حدود إمكاناتهم المتواضعة التي حكمتها إمكانياتهم في ذلك الزمن، فأقصى ما كانوا يمتلكون هو أن يسبوا بعضهم غالباً في الأقبية وفي مجالسهم الخاصة حيث كانت هذه الفاكهة المستطعمة هي ألذ ما كان يمتلكه وما كان يفعله المتشنجون في الماضي ضد خصومهم، مضافاً لذلك أن تظهر بعض صراعاتهم للعلن عند النزاع من فوق المنابر أحياناً بلغة فيها بعض التقية والخوف من بعضهم البعض أو بعض الحياء إن صح هذا القول، كما قد تظهر أيضاً عند الصراع على قيومية مسجد ما أو حسينية، أو إدارة وقف.

أما اليوم، بعد التحولات التقنية والسياسية في العالم والمنطقة فقد صعدت التيارات الشيعية جميعها تقريباً على الصعيد الإعلامي للأعلى تدريجياً بشكلٍ لافت، بداية من صعودها لإدارة مواقعها الإلكترونية إلى إدارة ما هو أهم وأقوى وهو فضائيات خاصة تخترق كل الكرة الأرضية، بينما لم يكن واقعاً بالإمكان إمتلاكها حتى من قبل الحكومات والدول خلال الفترة الماضية إلا منذ فترة وجيزة.

وهنا بدأ الصراع يحتدم بين التيارات الشيعية نفسها بعد أن كان صراعها محدوداً، وأصبحت المهاترات تزداد، وإن كان هذا توصيفٌ لبعض الحالة الشيعية فقط لا غير، وهذا طبيعي في ظل معرفتنا بطبيعة الحياة ومعادلات التنافس والصراع فيها، فالقوة المادية بمختلف تمظهراتها تسير في خط صاعد مع الغطرسة كما علمتنا الحياة، والله سبحانه وتعالى يقول «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»، لذا فلن تجد قوة أبداً بلا غطرسة مهما حاولت أن تكون راقية أخلاقياً، والأخلاء الشيعة متنافسون بالطبع ولذا في النهاية فسيشتد صراعهم كلما إزدادوا قوة ما لم يتحلى الكثيرون من جماهيرهم أو نخبهم أقلاً أو كلاهما معاً بالوعي والحكمة.

إن هؤلاء الورعين والأتقياء من حولك واقعاً، ليسوا ملائكة تطهرهم السماء ثم يأتونك نقيين من العيوب، ولم يأتي أحدٌ منهم من كوكب المريخ في ثياب الملائكة ليكون مختلفاً تماماً عن بقية البشر، بل هم بشر مثلهم مثل غيرهم مهما طُهروا أو تطهروا، لهم نفس الطبائع والإنفعالات ولك أن تراهن على خلاف ذلك، لكن غيرك سيراهنون أيضاً أقلاً على أنك لست ملاكاً في قبالهم وإن ادعيت خلاف ذلك، وهذه طبيعة ما تفعله التيارات ضد بعضها، حين ينقب كل طرفٍ منهم في عيوب الطرف الآخر ورموزه، والمحصلة النهائية لكل ذلك، هي أن هؤلاء جميعاً بشرٌ مثلهم مثل غيرهم يجب عليهم الإعتراف بذلك، فلهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وعليهم جميعاً أن يعترفوا بطبيعتهم وحدودهم البشرية، ليقروا بالقصور فيتجهوا للتكامل بكل طيب نفسٍ وقناعةٍ.

وهنا نجد من هذا المنطلق أن من واجبنا جميعاً عقلاً ومنطقاً أن نتصالح مع أنفسنا، فنعترف بأننا بشرٌ نصيب ونخطيء مهما تسامينا، وأن نعترف أيضاً أن الآخرين كذلك مثلنا فيهم الصالح والطالح بحدود، ويصدر منهم الخطأ والصواب معاً، وذلك كي لا نعيد صراعات الجاهلية، أو بالأحرى كي لا نعيش الجاهلية الأولى في القرن الحادي والعشرين.

إن وصول بعض الشيعة للحكم ووقوعه في مأزق الإختبار والتجربة والتجريب والإجتهاد وملامسة الواقع، في الوقت الذي يعيش فيه بعضهم في القاعدة المحكومة، وتحول بعضهم لتيارات شيعية سياسية ذات تماس مع الحياة وتفاعلاتها الإقتصادية والسياسية... الخ، في قبال جماعات قشرية طقوسية سطحية تقليدية ضعيفة ومحكومة وطامحة وضيقة التفكير قليلة الخبرة بعيدة عن الواقعية، كل ذلك يدفع لتكرار تأزمات الحاكم والمحكوم التاريخية، وتكرار التأزمات الشيعية السنية الدينية السياسية التي وصل فيها سنة للحكم في قبال شيعة أو وصل فيها شيعة للحكم في قبال سنة، وتكرار صراعات التكتلات والقوى المجتمعية المبنية فوق دوافع دينية، حيث يشتد هنا الصراع ويحتدم ويتم تسخينه بقوة بعيداً عن عقلانية الصراعات، عبر تحويل الصراع من صراع بشري إلى صراع ديني، حتى لو عثرت «برتقالة» في الشام، لقيل أن وراءها علي أو معاوية، أو الحكومة الفلانية الطائفية المستبدة، أو الفئة أو الفرقة الدينية الكذائية، على موازين غريبة عجيبة، في تمظهرات واضحة لفجور الخصومة مع المختلف، وفي تمظهرات لغضب المحكوم على الحاكم الدائم في أغلب الظروف المعيق للتعاونات الإنسانية البناءة، في ظل إشكالات ومشكلات الواقع وعجز الحاكم واقعياً بسوء أو بحسن نية وسلوك عن ممارسة الصرامة المنطقية البشرية بشكلٍ يجتمع مع الحب والرضى والعدالة المثالية المنشودة خصوصاً في ظل الأنظمة غير الديمقراطية وعجز المحكوم عن فهم طبيعة ذلك، وتمظهرات صعوبة تفاهم تمنطقات دينية لا عقلية بين فئات المجتمع الديني.

وهنا يأتي الخلل الداخلي مضافاً للتدخلات الخارجية التي لا شك أنها قائمة في صراعات العالم أبداً، ليصبح خطر الإنزلاق للفتن مضاعفاً، فتديين الصراعات وتحويلها إلى صراعات دينية حتى داخل البيت الشيعي الواحد يضاعف أخطار العداء والمنافسات والكراهيات البشرية الممتدة عبر التاريخ والمعمورة في ظل نوازع النفس البشرية وإشكالاتها، وهنا فالعاقل الذي ننشده ويرتقي بحضارتنا البشرية لا يحرق نفسه لإحراق عدوه، لكن مجانين الغطرسات الدينية والجهلة الغرائزيون والعاطفيون والحمقى الذين ابتليت بهم الأمم يفعلون ذلك، أما العقلانيون كما أسلفنا فعلى خلاف ذلك غالباً أو دائماً، حيث تجدهم يتكاملون وإن كانوا أعداءً خصوصاً مع ادراكهم أن المصالح واحدة أو أن المفسدة تعم، لذا تجدهم يفوتون على المتربصين فرص الفتنة، أما الجهلة والمتغطرسون الدينيون فدأبهم أن يتناحروا وإن كانوا إخوة أحبة من مذهبٍ أو بيتٍ أو دينٍ واحدٍ أو كلها معاً، حتى لو كان اقتتالهم فقط على قشة أو حبة فاسدة وأسباب تافهة، مهما كانت المصلحة واحدة.

ولذا هنا فلا بد أن تنطلق الدعوات من قبل عقلانيي المجتمع الشيعي سواءً كانوا دينيين أو لا دينيين، للجم تلك الغطرسات والحماقات الدينية بل والحماقات اللادينية أيضاً، لينزل البعض من بروج غرورهم العاجية التي يشيطنون من خلالها الآخر في نفس الوقت الذي يزكون فيه أنفسهم ويصعدون فيه برموزهم الخاصة لمستوى الآلهة أو أقلاً الملائكة في قبال ذلك الآخر المتهم، الذي يصرون على صراعات إسقاطه بل نحره ولو معنوياً أقلا، مفككين كل فرص اللقاء والتعاون البناء.

وهنا فكما كنا حتى اللحظة، بحاجة لترتيب البيت السني الشيعي لبناء وطنٍ نعيش فيه جميعاً بعزٍ وقوة ورفعة ومنعة وخير، وأوطانٍ يعيش فيها الناس برفاه وسلام، عبر عقلنة الصراعات وإخراجها من دوائرها الدينية ومثاليات النظرة إلى الذات واتهام الآخر، فإننا اليوم أيضاً كذلك أمام خطرٍ كبير باتت وتيرة عنفه متصاعدة وبارزة داخل البيت الشيعي الواحد يفرق الجماعة ويفتت الوحدة ويهدم المصالح المشتركة، ما يدفع للتنبه والتنبيه والتحذير والحذر والدعوة لترتيب البيت الشيعي قبل أن يستفحل التأزم ويزداد الخطر أكثر، فليست الأديان والمذاهب الأخرى فقط هي القابلة لإفراز التطرف وحدها من مروياتها ونصوصها الفقهية والدينية، فلسنا بدعاً من المذاهب والأديان، والنصوص الدينية كلها قابلة للفرز عن العقلانية وتحريف تأويلاتها باتجاه الخطيئة، فالتشيع أيضاً كغيره عرضة للخطر وقابل للتحوير وعرضة لنفس المأزق الذي تعرضت له المذاهب الأخرى فأنتج ثقافة اقتتال واحتراب وتطرف داخلية وخارجية خطرة على الذات وعلى العالم بأسره.