لا تضيّع الفرصة!.. من الأدب الهجري
يحكى أن مهاجراً عاد للأحساء « شرق السعودية » بخفي حنين « خاوي اليدين » في الخمسينات الميلادية الماضية، بعد غربة نصف قرن قضاها بالخارج. فقد هجر أهله وأحبائه بعد اتهامه بسرقة « حفنة نقود » من محل أبيه. لقد كان غريباً شارد الذهن وهو يتجول وسط سوق البلدة، بعد أن تجاوز عمره ثمانية عقود، ولم يزر هذا السوق منذ هروبه لأكثر من خمسين سنة.
لقد تغير كل شيء! وتغيرت الوجوه، وتغيرت الدنيا، حتى العملة الورقية قد استبدلت، وبعد المساء، وأثناء وقوفه أمام حانة لبيع الطعام وسرقته رائحة الكباب، أقترب منه رجل وأمسك بكفه وقال له: أعتقد أنك غريب أو مسافر، وأنت مدعوا عندي الأن على العشاء، فقبل صاحبنا الدعوة على مضض، فوجد عدد من عامة القوم على السفرة، ثم أقترب من صاحب المنزل وهمس بأذنه " سأوضح لك الأمر! عندما رأيتني أمام المطعم كنت أمتلك بعض المال، لكن لا أمتلك أسنان، لقد فقدتها كلها مع تعرية الزمن، ففاجأه الرجل أمام الضيوف، وبلمحة البصر! وأخرج عدد من اطقم الأسنان من جيبه وقال له: أختر ما يناسبك، فسعد الضيف بعد أن وجد أسناناً وكأنها خلقت له.
بعد العشاء، سأل الضيف صاحب البيت، هل أنت حكيم أسنان؟ فأجابه بالنفي، فسأله: ولماذا؟ تضع تلك الأسنان بجيبك، فقال له: مهنتي تغسيل الموتى، وكل من جلس أمامك على المائدة هم أصدقائي حافري القبور، وأثناء عملي أنبش الميت من رأسه حتى أخمص قدميه، وأخلع كل ما يمكن خلعه، وحتى ضرس الذهب اخلعه بمخلب مع سنه! وأعطيه لورثته. فإذا بالضيف يدخل أصابعه في فمه، ويرمى بالطقم مع بعض لعابه، وقال صارخاً: إذا هذا لميت! فأجابه بنعم، ولماذا لا نستفيد منه وقد ولى صاحبه، وتنازل عنه ورثته.
فأستفرغ الرجل كل ما في بطنه من طعام، وخرج مهرولاً وهو يبكي ويضرب أم رأسه، وهام في شوارع البلدة كأنه مجنون يحدث نفسه « يا الله! حتى الأسنان تؤخذ من الأنسان » فما بالي وأنا عجوز وليس لدي سن واحد!. فأسرع يسأل عن بيت أخيه في حارتهم القديمة، فاخبروه أنه أنتقل الى حارة أخرى، فذهب اليها، فسأل عنه حتى وجد بيته وعياله، ففرحوا بعودة عمهم، فقالوا له « عظم الله لك الأجر»، لقد رحل ابينا قبل سنوات، ولقد أوصانا بأن قيمة نصف بيت جدنا لك، وإنك سترجع يوما ما لأخذه، فقال لهم وهو يبكي بشدة: أطلب منكم الحل أبناء أخي، فقد سرقت مال جدكم قبل وجودكم، فقال له كبيرهم: عمي! الحل بيد جدي وليس منا، وجدي رحل ولم تبقى لك فرصة!