سويسرا التي لا يحبها العرب
لا أحد يصدق أن سويسرا لا يحبها العرب، فهم مولعون بجمالها الأخاذ، وإليها يشد الميسورون منهم رحالهم ليحطوا في ربوعها، ويستمتعوا بأجوائها وجليدها وبحيراتها وغاباتها، وفيها تستقر أرصدتهم وحساباتهم السرية بعيدا عن أعين الحاسدين، ومنها يشترون ساعاتهم الفاخرة. أما غير الميسورين من ذوي الدخل الذي لا يكفي الحاجة، فحسبُ المحظوظين منهم أن يزوروها في منامهم، وربما تأخذهم أحلامهم إلى أرقى الفنادق فيها، رغم أنهم قبل النوم كانوا يفكرون في كيفية تسديد الديون المتراكمة عليهم من كل صوب. لكن لا عزاء لهم سوى الأحلام التي لا تزال ولله الحمد مجانا إذ لم يخترع أحدهم نظام «حالم» بعد.
لا علاقة لحديثي بسويسرا هذه التي نحبها، لأنه يتناول سويسرا الأخرى التي لا نتحدث عنها، وربما نجهل الكثير من شؤونها. حديثي عن سويسرا في تجربتها السياسية المميزة والتي ينبغي أن ندرسها بعناية، ونستفيد منها في واقعنا العربي المأزوم. لا أقول بإمكانية تطبيقها بحذافيرها، لكننا بالتأكيد نستطيع أن نستخلص من التجربة جوهرها وما نعتقد أنه سيساهم في تطوير حلول لمشاكلنا السياسية المستعصية.
سويسرا دولة أوروبية ذات هويات متعددة لغويا وعرقيا ودينيا ومذهبيا. من ناحية لغوية 74% من السكان يتكلمون الألمانية، و20% الفرنسية، و5% الإيطالية، و1% الرومانشية. وكل هذه اللغات معترف بها رسميا برغم التفاوت الكبير في النسب، فلم تفرض الأكثرية لغتها على الأقليات اللغوية الأخرى. ومن ناحية دينية ومذهبية فتضم العديد من الأديان والمذاهب المتنوعة؛ الكاثوليكية 41.8% والبروتستانتية 35.3% والإسلام 4.3% والنسب المتبقية موزعة على عدة طوائف كالهندوسية والبوذية واليهودية واللادينية وغيرها. وهذه أيضا تتعايش مع بعضها في بوتقة سويسرا دون أي صراع أو نزاع. يتألف الاتحاد السويسري من 26 مقاطعة «كانتوناً» ليست مقسمة على أساس عرقي أو طائفي، وإنما على أساس إداري بحت، فلا توجد مقاطعة فرنسية أو أخرى كاثوليكية مثلا. والأحزاب جميعها وطنية، لا تخص قومية أو دينا أو طائفة معينة، فيمكن لأي مواطن أن ينتمي لأي حزب حتى لو كان ذا أساس ديني كالحزب الديمقراطي المسيحي والحزب المسيحي الاجتماعي، لأنها أحزاب مسيحية وطنية لجميع السويسريين بمختلف مذاهبهم، بل يحق حتى لغير المنتمين دينيا الانضمام إليها. يقوم دستورها على ثلاثة مبادئ أساسية هي المبدأ الديمقراطي الذي يحكم الشعب به نفسه بنفسه، ويضمن التداول السلمي للسلطة، والمبدأ الليبرالي المتكفل بضمان الحقوق والحريات الفردية، والمبدأ الاتحادي القائم على مقاطعات تتمتع بحكم ذاتي تحت مظلة الاتحاد.
الديمقراطية في سويسرا فريدة من نوعها، إذ تعتمد الديمقراطية المباشرة، فتخضع القوانين والقرارات الاتحادية للتصويت الشعبي إذا ما تم جمع 50 ألف توقيع للمطالبة بذلك، أما تعديل الدستور فيتطلب جمع مائة ألف توقيع فقط ليخضع للتصويت المباشر. البرلمان السويسري يتكون من غرفتين هما المجلس الوطني ويضم 200 نائبا، ينتخب كل كانتون عدداً من النواب بما يتناسب وحجمه السكاني، ومجلس الدولة الذي يُمثَّل فيه كل كانتون بنائبين فقط بغض النظر عن حجمه. ومن الغرفتين يتألف مجلس الاتحاد الذي ينتخب أعضاء الحكومة، أي السلطة التنفيذية المكونة من سبعة أفراد، ومن بين السبعة يتم اختيار رئيس الدولة الذي يحكم لسنة واحدة فقط، ثم ينتخب شخص آخر من السبعة. لذا فإن كثيرا من السويسريين يجهلون اسم رئيسهم.
النموذج السويسري كالساعات السويسرية يجمع بين الفخامة والدقة، وبين التنوع والوحدة. ومجتمعاتنا العربية بحاجة ماسة إلى قراءة هذا النموذج والإفادة منه، كي تتعلم كيف تحافظ على وحدتها وتنوعها وتمنع الانقسام والتشظي والفتن والحروب البينية.