في تجديد الفكر الديني «2»
لعل من أهم الأسئلة التي ينبغي أن تطرح في هذا الموضوع هو سؤال: لماذا تجديد الفكر الديني؟
ويمكننا أن نرصد في هذا الصدد لدى الداعين إلى التجديد إجابات متعددة ومتنوعة ينطلق كل منها من داعٍ مختلف:
الحاجة الملحة للإجابة على الأسئلة المستجدة الناشئة عن تطور العصر والتي لم تكن في الماضي. فما دامت الحياة في تطور دائم وتغير مستمر، فإن موضوعات جديدة تُستحدث أو يطرأ على أخرى قديمة بعض التغيير في أحوالها وظروفها، مما يستدعي تقديم إجابات جديدة لها، بعد التسليم بشمولية الدين لكافة مناحي الحياة الإنسانية واستيعاب تشريعاته لها. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا كمسائل بيع الأعضاء وبيع الدم، والاستنساخ، والصلاة في الجو أو في الكواكب الأخرى، ومسائل حقوق التأليف والاختراع والنشر، ومسائل الإعلام والإنترنت وحرية التعبير، ومسائل التجارة الإلكترونية وغيرها.
مواجهة التحدي الحضاري المتمثل في منظومة الحضارة الغربية الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأسسها الفلسفية. فهذه الحضارة التي نتفاعل مع منتجاتها طوعا أو كرها تتدخل في تفاصيل حياتنا، وتعيد صياغة عقولنا وترتيب أولوياتنا، وتُطعمنا الكثير من المفاهيم، وتسقينا ما تشاء من القيم. وحتى نحد من الاستلاب الحضاري أو نمنعه ينبغي القيام بعملية تجديد في الفكر الديني في مختلف الحقول وإنتاج نظريات مستنبطة من الأدلة الدينية تقدم البديل الموازي، سواء في حقل الفكر أو التربية أو الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد أو غيرها.
الحاجة إلى إبداع نموذج حضاري منافس في الساحة الدولية، يتمتع بالإغراء والجاذبية للمسلمين وغير المسلمين. والفرق بين هذا والذي قبله أن الثاني يتأسس على رد الفعل، بينما يتأسس هذا على الفعل والمبادرة. كما إنه قد يكون أكثر قدرة على قراءة نتاج الآخر بإنصاف وموضوعية. وهذا ما كانت تطمح لتحقيقه الحركات الإسلامية بشكل عام، وإن لم تنجح في فعله على أرض الواقع، ولكن أدبياتها تبشر بمثل ذلك دائما، وتحاول رسم بعض ملامحه ومعالمه.
الحاجة إلى إنجاح مشاريع الحوار والتقريب مع الآخر الديني أو المذهبي. ففي رأي من يطرحون هذا الداعي أو بعضهم على الأقل أن نجاح تلك المشاريع يتطلب تجديدا في فقه العلاقات البينية، وربما كما يرى البعض غربلة التراث وتنقيحه من كل ما قد يتسبب في تعكير أجواء الحوار وإفشال التقريب.
الاستجابة لمتطلبات ضرورة الواقع، كما حدث مع التجربة الإيرانية بعد سقوط نظام الشاه. فقد واجهت تلك التجربة منذ انتصار الثورة عام 1979 حاجة ملحة لإنتاج قوانين جديدة في فقه الدولة لسد الاحتياجات الواسعة التي لم تكن محل ابتلاء في الماضي، مما جعلها خارج متن المدونة الفقهية قبل ذلك.
الاستفادة من النظريات الحديثة في حقل المعرفة والألسنيات وقراءة النصوص للوصول إلى فهم جديد للدين يتناسب وعصرنا الراهن. فهذه النظريات يمكنها بحسب الداعين لها تطوير أصول فهم النص الديني، مما سينتج عنه معرفة دينية جديدة. نحن لا نجادل في ضرورة الاستفادة من تلك النظريات في الجملة، ولكن البعض كالدكتور سروش ذهب في هذا الاتجاه بعيدا جدا حين رأى أن كل المعارف الإنسانية مترابطة، وبالتالي فإن أي تغيير يطرأ على زاوية من زواياها سوف يلقي بظله على سائر فروع هذه المعرفة، ومنها المعرفة الدينية بالطبع.
الحاجة لتجديد الخطاب الديني ليكون أقرب إلى أفهام الناس وواقعهم من ناحية، وليكون أقرب إلى لغة العصر من ناحية أخرى. فالرسائل العملية مثلا التي هي فتاوى المراجع والمفروض أن يرجع لها عامة الناس ليأخذوا منها أحكامهم الفقهية ينبغي من وجهة نظر الداعين لهذا تبسيطها وتخليتها من التعقيد اللفظي والمعنوي ومن المصطلحات العلمية البحتة، كي تحقق أهدافها بسهولة. وقد شهدنا مؤخرا بعض التجارب في هذا المجال، كما شهدنا طرح عناوين جديدة مستقلة كفقه الطب والمرور والأسرة والبيئة وغيرها.
الحاجة إلى إنتاج جديد يُبرز النزعة الإنسانية في الدين، ويدافع عن اهتمامه بحقوق الإنسان، ويبين موقفه من الحرية والديمقراطية والمساواة والمواطنة وغيرها من مسائل العصر الكبرى.
هذه بعض الأهداف التي يذكرها دعاة التجديد لتبرير دعواتهم. وهي أهداف مختلفة لا تتفق بلا شك في درجة أهميتها وإلحاحها، لذا فإن التعرف عليها مهم جدا.