التفكير بحب «1»
ليس كل أحد يمارس التفكير بنفس الصورة. فالبعض يُعمل تفكيره في حدوده الدنيا فقط، والبعض يحبذ التفكير تحت سقف المألوف، ولا يتردد في استخدام القمع لكبح جماح تفكيره لو عنَّ له ذلك ذات غفلة. والبعض يُطلق لتفكيره العنان ليبدع وينتج ما لم يستطعه الأوائل. وهؤلاء هم المفكرون بحب. وهم على مدار التاريخ من تمكنوا من ترك بصماتهم واضحة في مسيرة البشرية. عشقوا التفكير، وتعلقوا به، فلما رأى منهم الصدق منحهم من فيضه، فحلقوا به في سماوات الإبداع. أما المعطلون والمترددون فلم يتقدموا خطوة واحدة للأمام، وظلوا قانعين بالمقاعد الخلفية في قاعة مسرح الحياة.
وبرغم ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة من حث على التفكير وإعمال العقل ومدح للذين يتفكرون، نشهد تراجعا كبيرا على مستوى الأمة في تطبيق هذا الأمر في حياتها العملية. ولذا تراجع حضورنا وأصبحنا غائبين أو مغيبين عن المشهد الحضاري الكوني. لقد تحولنا إلى مجرد مستهلكين نقتني ما ينتجه الآخرون، وما يفرضه علينا ذوقهم وثقافتهم، دون أن تكون لنا أدنى مشاركة في عملية الإنتاج وما قبلها. وبعبارة مختصرة أصبحنا على هامش الهامش، هذا إن تكرم وقبل بنا مشكورا.
من يصدق أننا نتلو آيات التفكر ليل نهار، ونحفظ الأحاديث والروايات في فضله، ثم لا نجهد أنفسنا في التفكر في واقعنا المتخلف على كل الأصعدة، وما يحتاجه من اجتراح أفكار استثنائية لإحداث الدفعة القوية الصعبة التي تنقله إلى ركب الحضارة والحداثة.
ولو أردنا تشخيص الحالة التي وصلنا لها، وقمنا بعرض حالنا على القرآن الكريم، فإننا سنتبين أي مرحلة خطيرة هذه التي نمر بها. فهذا القرآن الكريم يعلمنا أن المجتمع الذي يعطل التفكير يفقد القدرة على التمييز بين الغث والسمين، وبين الخطأ والصواب، ويستوي عنده الشيء وضده، وبعبارة أخرى يصبح مجتمعا غير مميِّز: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ». ومعلوم أن غير المميِّز بطبيعة الحال لا ينتفع بالآيات التي يتلوها، لأنه لا يدرك حقيقة قيمتها وأهمية العمل بها، لفقده شرط الانتفاع وهو ممارسة التفكير: «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
لذا فالواجب علينا إذا أردنا نخرج من هامش الهامش إلى المتن، أن نؤسس لعلاقة جديدة مع التفكير والمفكرين وبيئة التفكير، كي نحب التفكير ونتفكر بحب.
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.