عقولكم التي تحبونها «1»
في بنك الأدمغة في مستشفى ماكلين التابع لكلية الطب بجامعة هارفرد تمكنوا منذ العام 1978 حتى الآن من جمع أكثر من 7000 دماغ من متبرعين. الغرض من هذا البنك هو إجراء البحوث والدراسات على هذا المخلوق العجيب لسبر أغواره واكتشاف أسراره، وللأغراض الطبية بهدف البحث عن علاجات لبعض الأمراض المستعصية ذات العلاقة بالدماغ كالباركنسون «الرعاش» والشيزوفرانيا «انفصام الشخصية» والزهايمر وغيرها.
هذا الأمر يكشف عن سر من أسرار نجاح وتفوق الحضارة الغربية، وهو اهتمامها بالدماغ وأبحاثه ضمن اهتمامها بالعقل بشكل عام، وإمكاناته ونتاجاته. وفي ذلك أيضا سر من أسرار تخلفنا، إذ لا نزال بعيدين جدا عن تقدير العقل وأهله المتميزين من ذوي الألباب، بدليل هجرة العقول وهروبها الاضطراري من أوطانها إلى حيث تلقى من يعرفها ويحتضنها وينفق عليها بسخاء، ويفتح لها الآفاق لصقل مهاراتها وتمكينها من الإبداع.
معلوم أن ما يميز الإنسان عن غيره هو عقله الذي أودعه الله فيه، والذي هو رأس المال الحقيقي عنده. فبه يكون الإنسان أهلا لخطاب الباري ومحلا لتكليفه، ومن دونه تسقط التكاليف الشرعية عن الإنسان.
هذه الهبة الربانية الفريدة يتطلب شكرُها معرفتها ورعايتَها حق رعايتها، واستثمار طاقاتها وقدراتها الخلاقة في كل ما يجعل حياة الإنسان على كوكب الأرض رحلة ممتعة من الاكتشافات والاختراعات والابتكارات والإبداعات في جميع المجالات بما يكفل سعادة الإنسان ورقيه وتكامله ماديا ومعنويا.
يبدأ ذلك بالاختيار الواعي للدين الحق الذي يحيي الإنسان حياة طيبة تسمو به عن حياة الأنعام التي همها علفها، وتسلك به سبل المعالي والفضائل، ليجتمع له فيها خير الدنيا والآخرة. فكل اختيار خاطئ للدين هو في ذاته انتقاص للعقل «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ».
ويأتي معه إعمال العقل في مختلف شؤون الحياة بحيث تكون قرارات الإنسان مبنية على أسس عقلية سليمة، بعيدة عن الأهواء والعصبيات، وبحيث تتفجر عيون العقل وتشرق شمسه على الكون فتزدهر ربوعه، وتنعم البشرية بالأمن والسلم والرخاء. ولا يمكن لهذا أن يتم إلا من خلال منظومة متكاملة تبدأ بالتربية الأسرية مرورا بالمدرسة ومفرداتها وليس انتهاء بالجامعة والمجتمع.
ولو ألقينا نظرة فاحصة على نظامنا التعليمي مثلا لمعرفة مدى حضور العقل في مختلف أجزائه، فإننا سنجده حضورا باهتا لا يرقى لمستوى التطلعات والتحديات. ومن أصدق الأدلة على ذلك حضورنا المتواضع جدا في خريطة الإنجازات العلمية العالمية.
يدخل الطفل المدرسة ويتخرج من الجامعة بعد ذلك دون أن يتعلم عن عقله الذي هو جوهرته الثمينة شيئا. لم يتعلم أساليب وطرق التفكير العلمي، ولم يدرس شيئا عن طرائق الاستدلال واكتشاف المغالطات، ولم يتدرب على كيفية استخدام عقله بشكل صحيح في القراءة الذكية والمذاكرة والحفظ والاستذكار وحل المشكلات واتخاذ القرارات. بل ويجهل حتى نوعية التغذية السليمة لدماغه.
ثم بعد ذلك نتساءل: لماذا نحن حيث نحن؟!
والجواب: لأن عقولنا التي نحبها نجهلها ولم نهتم بها كما يجب.
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.