العقاب بحب «2»
ليس كل أحد يجيد العقاب بحب، لما يحتاجه من حكمة وضبط للنفس وتركيز عال على الأهداف المتوخاة من عملية العقاب، أي النظر إلى ما وراء العقاب.
في لحظات الغضب والانفعال، قلما تحضر القيم والمبادئ والحكمة، وقد يتصرف الإنسان غالبا في تلك الأوقات بطيش يندم عليه بسبب تبعاته. لذا فإن العقاب بحب سلوك ينبغي أن يسعى لإتقانه كل إنسان رشيد، فهو كأي سلوك آخر يمكن اكتسابه وتطويره من خلال الوعي والتدريب والمران.
العقاب بحب يقوم أولا على غاية محددة بدقة، تراعي الحدود المسموحة والممنوعة في العقاب. وثانيا على عدم التشفي أو تفريغ شحنات الغيظ دون أية ضوابط في الشخص المعاقَب. وثالثا على عدم التسرع والاستعجال في إنزال العقوبة. فكما ورد عن الإمام الحسن : لا تعاجل الذنب بالعقوبة، واجعل بينهما للاعتذار طريقا. ويقوم رابعا على التدرج في اختيار العقوبة المناسبة من الأخف إلى الأشد شيئا فشيئا. فلا يلجأ المرء للأشد مع إمكان تأثير الأخف.
أحد الأمثلة البارزة المذكورة في القرآن الكريم هو معالجة قضية المرأة الناشز، أي التي تترفع عن القيام بالحقوق الزوجية. وهذه قضية اجتماعية مهمة. الحل يتضمن كما جاء في الذكر الحكيم عقابين بعد استنفاد وسيلة الوعظ: «وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً». فهنا نلاحظ حالة التدرج، فالوعظ مقدم على غيره، فإن نفع وإلا انتقل إلى الوسيلة الثانية وهي الهجر في المضجع، فإن لم ينفع لجأ للوسيلة الأخيرة وهي الضرب ضربا خفيفا لا يقصد به الانتقام والتشفي، ولا تكون دلائل العنف عليه لائحة. «وينبغي الالتفات إلى قضية مهمة وهي أن الضرب إنما يصار إليه كوسيلة ثالثة فيما إذا احتمل كونه مؤثرا في تأديب الزوجة وإصلاحها».
مثال آخر عن العقاب بحب ما جرى للثلاثة الذين تحدث عما جرى لهم القرآن من مقاطعة اجتماعية هدفها إعادتهم لخط الاستقامة. يقول تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». هذه الآية كما يقول صاحب تفسير مجمع البيان "نزلت في شأن كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية. وذلك أنهم تخلفوا عن رسول الله ولم يخرجوا معه، لا عن نفاق ولكن عن توانٍ، ثم ندموا فلما قدم النبي المدينة جاؤوا إليه واعتذروا فلم يكلمهم النبي ، وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتى الصبيان. وجاءت نساؤهم إلى رسول الله فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: لا ولكن لا يقربوكن. فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ولا يكلمونهم فقال بعضهم لبعض قد هجرنا الناس ولا يكلمنا أحد منهم فهلا نتهاجر نحن أيضا؟ فتفرقوا ولم يتجمع منهم اثنان وبقوا على ذلك خمسين يوما يتضرعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.
أساليب العقاب بحب كثيرة ومتنوعة، كالحرمان من شيء محبوب، أو تكليف بعمل غير محبب، أو سحب امتياز ما، أو التجاهل والإعراض، أو غير ذلك. وكلها تهدف إلى إصلاح أو تعديل سلوك ما، وليس إلى تحطيم الشخص أو سحق شخصيته.
العقاب بحب أسلوب تربوي لا يُغفل الحب حين يكون العقاب هو الحل.
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.