الإنتصار للمذهب وعقدة الفشل... تفجير القديح نموذجاً

حسين أحمد بزبوز شبكة أم الحمام 30 / 5 / 2015م - 6:51 م

يبذل أتباع المذاهب المختلفة جهوداً حثيثة لتغيير فكر وقناعات وعقائد أبناء المذاهب والعقائد والأديان المخالفة، فتلقى الخطب وتطلق الفضائيات وتطبع الكتب وتحرر مقاطع الفيديو... الخ، ورغم كل ما يبذل من جهود وأموال تكون النتيجة عادة هي الفشل، ولا يمكن تسجيل أية نقاط تذكر ولا أي انتصار حقيقي على أبناء المذاهب والعقائد المخالفة، إلا في الحدود الضيقة وفي حدود الحالات الشاذة والمحدودة التي تقابلها عادة أيضاً انتصارات مماثلة شاذة ومحدودة للخصوم، فتبقى هنا القاعدة الصامدة في وجه التغيير حاضرة في كل حين عبر التاريخ لتذكرنا بالحقيقة فـ «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»، فالتدين غالباً في واقعنا البشري عاطفي صوري، وهو برمجة تكوينية إجتماعية عاطفية تخترق الشعور لتستقر في الذات الخفية وفي اللاشعور أو مناطق اللاوعي التي يصعب الوصول إليها عادة من قبل العقل. وهذا ما يجب أن نعيه وأن نسلم به، وهو ما يفرزه الواقع البشري وتعدد البيئات والظروف، من تنوع بشري حتمي.

لكن بدل التسليم بهذا التنوع البشري الأزلي والحتمي، ومع الفشل في تحقيق المراد مذهبياً وعقدياً وفي ظل رغبة وإصرار أتباع المذاهب المختلفة على تحقيق الإنتصار على الآخر المختلف، دون الخضوع للتأمل العميق في سنة الإختلاف التي يؤكدها الدين العظيم في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» المورث للرضى والتسليم بما خلقه الله من تعدد وتنوع وتشعب، ومع عدم تشبع أنفس أفراد من المتدينين بحقيقة النصر الإلهي الحتمي لرسالاته وللحق الذي جاء به أنبياؤه والوارد في مثل قوله سبحانه وتعالى «إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد»، وفي ظل عدم الرضى أيضاً عقلاً ومنطقاً بأن يكون للآخرين دين أو معتقد حاضر بثقله في ساحة الحياة الواقعية يتعامل معه بسعة قول الله سبحانه وتعالى «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» وقوله عز من قائل «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم» رغم ثقل واستفزاز هذا النوع من الإختلاف العقدي المورث للشعور بالنقص والخطأ على النفس الإنسانية والذي تتسامى الأديان السماوية فوقه، يولد هنا ذلك الجدل العقيم المتشنج بين أتباع المذاهب والأديان والعقائد المختلفة الخارج عن طور الحوارات العقلانية المعتدلة، ويخرج من رحمه كائن مشوه هو الإرهاب ومتشددون ومتعصبون يسعون للإنتصار لأنفسهم وعقائدهم بكل الطرق، ساعين لرفع عقد الفشل والنقص من أنفسهم بكل سبيل، فاتحين أبواب التشاتم والتقاتل والإحتراب على أبناء الأمة الواحدة والشعب الواحد والدولة الواحد والوطن الواحد على مصراعيها، مدمرين بذلك كل مكامن القوة الجامعة في الأمة التي يجب استثمارها لصالح الجميع، ومبددين كل سبل النجاة والنجاح والإزدهار والإستقرار... فيحظى الجميع هنا في النهاية بالخراب والدمار.

هنا تحديداً يتم تأصيل التطرف لإزالة عقد الفشل والنقص ولتحقيق نشوة الإنتصار، فيصبح التطرف والعنف نمطاً وقوالب جاهزة لمن شاء إلى التطرف سبيلاً، ولكل من ألقى سمعه على الجادة فوجد غواةً يغوونه عن سبيل العقل والإنسانية، فيتلقف هذا التطرف صاحب كل حظٍ عاثرٍ، وكل من يجد في نفسه الإحباط، وكل غر لم يتشبع بعد من قيم تسامح السماء، ولا شبع بعد من عمق فهم ووعي عقلانية الحياة، ولمن لم يرد المعين العذب لعقلانية وإنسانية رسالات السماء.

وهنا يشتم البعض رموز الآخر، ويقوم البعض الآخر بالتفخيخ والتفجير والقتل... والتعصب كله في النهاية ملة واحدة، مهما اختلفت المذاهب والأديان والمعتقدات، ومهما اختلفت أشكال العنف. فهؤلاء جميعاً في النهاية، مهما إختلفت مشاربهم وأفكارهم وتنوعت سلوكيات العنف لديهم، واقعون في فخ الإنتصار للأديان والعقائد عبر العنف، في شكله اللفظية أو العملي، فلا يصغون لصوت العقل ولا يحتكمون له ولا يستطيعون ذلك، فكل فردٍ منهم واقعٌ في خدر نشوات الإنتصارات الموهومة، وكل منهم أسير ثقافة مريضة تفخخ العقول وتسلب الإرادة والرشد، وكل منهم يفجر الأمة ببلاهة تفوق التصورات، دون قابلية أي منهم في ظل نشوته وتخدير قواه العقلية للركون للغة العقل والإصلاح والصلاح والمصالح المنطقية والجوهرية.

لكن هؤلاء الغلاة والمتطرفون أنفسهم ضمن تناقضاتهم العجيبة، كلما تلقفوا شاذاً نفر من مذهبه أو معتقده أو دينه إلى مذهبهم أو معتقدهم أو دينهم - ومن حقه الإختيار طبعاً -، طاروا به إلى عنان السماء، ليفرحوا بالهداية التي تأتي على مقاساتهم، فلا تقف بهم الفرحة عند باب من أبواب السماء إلا اخترقته، رافعين بهجتهم بالصلاح والإصلاح، وموحين للعالم أنهم هم فقط دعاة الصلاح والإصلاح وعمارة الأرض في هذا العالم بل وفي الكون كله، وإن كان ذلك خلافاً للواقع، وهنا رغم حبهم للخير هذا، فلم إذاً يتركون لغة هداية الآخر وإصلاح الآخرين وبوابات استقبال المنقلبين والمنتقلين لعقائدهم وسوح الحفاوة بهم وبصلاحهم في ميادين أخرى فيقلبونها حرباً ودماراً لأتفه الأسباب، خصوصاً حين نعلم أن الآخر المخالف والمختلف لم يقاتلهم ولم يقتلهم ولم يفجرهم ولم يؤذهم على الأقل مادياً، وإذا كانوا فعلاً يفرحون بالإصلاح وبالمهتدين لأديانهم ومذاهبهم هكذا، فلم تجدهم منتقلين من هذه الساحات إلى مساحات الشجار والإحتراب والسب والتكفير والتفجير، فيأخذون في أحسن الحالات تبريراً إن وجدت تبريرات، البريء بجريرة المذنب، دون رابطة تذكر إلا هوية المعتقد، بدل الإصرار على نهج الهداية والإصلاح؟!.

إنه ببساطة يا سادة «الإحباط»، هو المولد الحقيقي لهكذا مشاعر وأفكار وسلوكيات متناقضة، فعشرات بل مئات السنين تمر وكل أبناء مذهب ثابتون على مذهبهم لا يتزحزحون عنه أبداً، في ظل استمرار حروب الكلام، وهذا الثبات يغيظ ويؤجج العداء، فالجدل لا يجلب الإنتصار، والإحباط كفيل بخلق البدائل وتأصيلها دينياً وعقدياً ليخرج الحل من دوامات الحوار الهاديء ثم الجدل العقيم، لشيء يشعر منفذوه ومنتهجوه ولو من باب الوهم، بنشوة الإنتصار، حتى لو كانت البوابة إراقة الدم البريء، بعد القفز فوق بوابات الحوار والجدال بكل أصنافها.

وفي النهاية فيبقى الأكيد هو أن الجدل الديني الفكري لا يغير عادة الأديان مهما كان معتدلاً وعقلانياً إلا في الحدود الضيقة جداً، فيزرع لهذا الإحباط، ولهذا بالتأكيد ينتقل المحبطون منه، لأن الأديان المستهدفة في العادة ليست في ضمائر أتباعها أفكاراً، بل هي عواطف ومشاعر وانفعالات، يغذيها تاريخ طويل من التنشئة والتربية والألفة لما تفرضه البيئة الأم، في حاضنات تدعمها الأسرة عادة لتسمح بتولد المشاعر الإيجابية تجاه عقيدة مختارة سلفاً، وفق أقدار إلهية لا يختارها المولود، أياً كان دينه ومذهبه.

لكن أيضاً، على جميع المحبطين هنا، الفارين من لغة الحوار إلى لغات العنف، ومن يستهدف تفخيخ عقولهم فكر التطرف، أن يعوا تماماً أن التفجير أيضاً كالجدال الذي يفرون منه، فهو في النهاية لا يغير العقائد والمذاهب والأديان ولا يجلب الإنتصار - وسنستذكر هنا طبعاً حادثة القديح الأليمة، التي سنلقي على شهدائها الأبرار ألف تحية وسلام كل يوم -، فالعنف الحاصل دائماً بما يخلف وراءه يذكرنا أنه هو دائماً الخيار الأسوأ للدعوة والتغيير الديني، بل إن ذلك واقعاً لمن أشد ما يكشف الإفلاس وما يعري الفكر والمعتقد وما يستفز الهوية الجامعة لأتباع المذاهب والعقائد المخالفة المعرضين للإعتداءات والهجوم فيوحدهم في وجه الخطر القادم وفي قبال الجبهة المهاجمة المخالفة التي تشعرهم بالتهديد والخطر المدمر وتسعى لخلق انتصارٍ دامٍ عليهم مصبوغٍ بلون دمائهم، وهو ما يشكل أكبر خط أحمر في الدنيا، فيولد الإحتراب هنا في الأمة وتدمر الأوطان على نار هكذا خلاف. ولا سبيل في النهاية، للتعامل مع الخلافات الدينية بشكل إيجابي ناجح قادر على تغيير الخصوم أو تحييدهم أو النجاح معهم، لمن أراد ذلك حقاً، إلا عبر حوارٍ راقٍ يدعمه سلوك راقٍ، يعزز الإنتماء لحاضنة عدالة واحدة حقيقية واضحة ومقنعة.

وإن تفجير القديح لهو في مشهد العنف الحاصل لشاهد واحد ونموذج واحد فقط من تلك الشواهد والنماذج العديدة الكثيرة المتكاثرة التي تمر عبر التاريخ، الدالة على ما تفرزه عقد الفشل والنقص والعجز عن تغيير عقائد الخصوم والأغيار فتفجر، الأمة وتفرز الدمار.

والضحية هم طبعاً، عقل سني يفخخ وجسد شيعي يفجر... وسني يؤذى وشيعي يتطاول ويتجاوز خطوطاً حمراء للآخر فيؤذي... وهلم جرا، ولا يشمل ذلك الكل طبعاً، فيقتل الأبرياء في الطرفين ويخسر الجميع من أبنائه وذويه وأحبته وأهل ملته، والمسؤول دائماً هو تطرف وسب في طرف، يغذيه تطرف وتكفير وما شاكل في الطرف الآخر وبالعكس، وأبناء الجميع سنة وشيعة حطبٌ للفتنة وبضاعة لمن يؤججها ومن يتاجر بها ومن يسيسها، يدفعون الثمن ويذهبون ضحايا هذا الإنفلات المجنون، الذي يجب أن يقف العقلاء في الطرفين في وجهه بحزم، متعاضدين مع دولهم في ذلك، قبل أن تصبح دولهم وأرواحهم وكل مكتسباتهم هشيما تذروه الرياح في ليلة ظلماء أو ضحاها. ولابد من أن تقوم الدول هنا طبعاً، وهي الأقوى والأقدر والأخبر بدورها أيضاً، وهو المنطقي والمتوقع في كل الحالات، لتحمي الكيان الأم وأبنائه.

فهل سنكون هنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فنستمع لصوت العقل، لنقف في وجه عقد الشعور بالفشل والنقص، ونجنح للتسامح المؤدي للبناء، ونفشل تأصيل التطرف والقتل، ونفشل استغلال ذلك وتوظيفه أيضاً، بدل الإرتماء في أحضان التطرف المريق لدماء الأبرياء والمدمر للأمم والشعوب، وبدل الميل له أيضاً أو احتضانه وتعزيزه؟!. وهل سنقف هنا، بعقلٍ وحزم، دون تلكوء ولا تأخر، ولا عجز؟!.

الله سبحانه وتعالى أعلم.