البركة نماء واستمرار لا عدد
ينشأ الإنسان في عالم المادة ويترعرع في أحضانها، فلا عجب إن تمسك بالمادة وتشبث بها، فالتثاقل إلى الأرض من طبعه وديدنه، فالإنسان مادي بطبعه.
إن الإسلام أعطى بعدًا قِيميًّا للإيمان بما أخبرنا به من مغيبات، فالإسلام دين التوازن بين المادية واللامادية، ومن شأن المسلم أن يؤمن بما أخبر عنه من مغيبات عن طريق الشريعة المقدسة.
لعل الزيادة المادية هي الهدف المنشود الذي يتطلع له الإنسان بطبيعته المادية، لكن لها معيار آخر في الشارع المقدس، فهي تحصيل البركة لا اللهث وراء الزيادة والتحصيل المادي.
والبركة، هي الخير الرباني الذي يصدر من حيث لا يُحتسب ولا يُحصى ولا يُحصر ولا يُعد.
هي الآثار غير المادية التي تكون في كل جانب نحو الله.
هي متلازمة مع الحق، ومن مائدة الحق تأتي.
إن للبركة نصيب من الآيات القرآنية والنصوص الروائية، فقد ذُكِرت البركة في القرآن الكريم «34» مرة في «32» آية وبصيغ مختلفة وفي مواضع متعددة، فتارة بركة مكانية «البقعة المباركة»، وتارة بركة زمانية «إنا أنزلناه في ليلة مباركة»، وأخرى بركة شخصية «واجعلني مباركًا أينما كنت»، ولم تخلوا أحاديث أهل البيت - - منها، فقد ذكرت البركة في مفاتيح الجنان والزيارة الجامعة والصحيفة السجادية ونهج البلاغة... إلخ.
إن البركة قد تكون في كتاب بمتانته العلمية وفوائده، أو درس بقوّته، أو زواج بسعادته، أو أبناء ببرهم، أو طعام يشبع خلقًا كثيرًا، أو عمر في طاعة الله، أو في وقت لخدمة الناس وقضاء حوائجهم.
وهنالك كثير من الأسباب والأعمال الصالحة لتحصيل البركة، نذكر منها إجمالاً لا حصرًا:
بركة المال: مأخذه من حلال ومصرفه في حلال، والصدقة، وصلة الرحم، وقراءة سور القرآن كسورة كالواقعة في كل ليلة فمن يقرأها لا يرى فقرًا ولا فاقة، وإفشاء السلام على الصغير والكبير، وحسن الخلق، وإخلاص النية في الأعمال، والأذان في المنزل وقت الصلاة، وحضور مجالس أهل البيت - - وإقامتها والإطعام فيها فالعين عندما تدمع والنفس عندما تحزن كلها بركات.
نحن نعايش في هذا الشهر الفضيل محطة إلهية عظيمة، ونستنهض فيه الطاقات ونستفرغ فيه الوسع لتحصيل المغفرة والرحمة والبركة، كما أخبرنا وأوصانا النبي الأكرم - - في خطبته المشهورة لاستقبال شهر رمضان: «أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة... إلخ».
وقد ربط القرآن الكريم البركة بالتقوى: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من السماوات والأرض».
إن للتقوى أثرًا تكوينيًّا كبيرًا في البركة والنماء، فللمتقي نوره الذي يمشي به ويحفظ الله به جيرانه وأهل قريته، ولعلك لاحظت وعايشت بعض الأنفاس الملكوتية المباركة التي بارك الله في علمها، نتيجة لتقوى تلك النفوس وصفائها.
إن تاريخنا وحاضرنا يبين لنا مِن العلماء مَن كان له السعي العظيم في طلب العلم حتى كان نتاجه العلمي مباركًا وخالدًا عبر الأجيال، كأمثال الحر العاملي والشيخ الصدوق والعلَّامة المجلسي والشيخ عباس القمي، وهؤلاء العلماء الأفاضل سعوا بكل طاقاتهم حتى أنالهم الله توفيقاته وبركاته.
إن العلم هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء - مع ما في طلبه من عظيم شرف -، فعلى المؤمن المتعلم أن يسعى لطلب النور أيضًا، والذي يتم تحصيله عن طريق التقوى والإخلاص والتزكية.
إن أهل البيت - - هم ينبوع البركات للدنيا والآخرة، والسيدة الزهراء هي مصداق لكوثر النبي - - ومنها خرج الخير الكثير إلى أن تقوم الساعة من السادة الأشراف، وإن كل سكنة وكل حركة ورحمة وخير وبركة في هذا الكون هي مرهونة بوجود الإمام المهدي - عجل الله تعالى فرجه الشريف - الذي لولاه لساخت الأرض بمن عليها.
«به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه بركات الأرض..».
وجميل بالمؤمن أن تكون البركة معه، فيكون مؤهلاً لها ويكون قلبه محلاًّ للفيض لا أن يكون كغيره ممن تفارقه البركة بخروجه من المكان المبارك أو انقضاء الزمن المبارك، كخروجه من ضيافة معصوم أو انتهاء ليلة قدر مثلاً، بل عليه أن يكون مباركًا أينما حل وارتحل.
وما أجدر بالمؤمن أن يلتفت إلى مصدر البركة إيجادًا وبقاءً في كل حركاته وسكناته. نسأل الله الأمتثال والتوفيق.