مهاتير الذي أحب وطنه «2»
لعل من أبرز تجليات حب الإنسان لوطنه اهتمامه بتنميته ومستقبله. وهذا ما جسّده مهاتير محمد، الذي أحب ماليزيا وعشق أرضها وناسها، جسّده من خلال الأفعال على الأرض المسبوقة بالقرارات السليمة والتخطيط المنهجي.
سياسة النظر شرقا كانت إحدى المبادرات الهامة في مسيرة حبه لوطنه. وهي سياسة تهدف أساسا إلى محاكاة اليابانيين في طريقة عملهم، بالإضافة للنظر في التجربة الكورية الجنوبية ومن ثم الصينية أيضا. يقول عنها في ص446 من كتابه «طبيب في رئاسة الوزراء»: إن سياسة النظر شرقا لا تعني ببساطة النظر للقدرة التصنيعية لدى اليابان وكوريا الجنوبية، وإنما إلى العناصر التي أسست لنجاحهما. فما هي الأسس الاجتماعية والثقافية لقوتهما وقدرتهما الجديدة على المنافسة؟ الواضح أن أخلاق العمل فيهما أحد العوامل، وهي تقوم على الاجتهاد في العمل الدؤوب والافتخار بمنتجاتهما، كما أن الروح الوطنية قوية جدا في الدولتين.
سياسة النظر شرقا تعني النظر في القيم والممارسات العملية الناجحة لدى الآخرين في الشرق، ومن ثم العمل على محاكاة تلك النماذج لتطوير الأداء الماليزي. من ذلك مثلا ما يتميز به اليابانيون من اهتمام كبير بجودة منتجاتهم، وتوقهم الدائم للكمال في مختلف تفاصيل حياتهم. يقول في ص447: يمقت اليابانيون رداءة الجودة في هذه الأيام، وأدمجوا في ثقافتهم الإصرار على أهمية تصميم وإنتاج أفضل المنتجات. وهذا لا يقتصر على الأجهزة الإلكترونية الحديثة؛ إذ إنهم يصنعون مشغولات خيزرانية تتميز بالجودة الفائقة، والمظهر الجمالي الرائع، والدقة، والذوق والجاذبية... وهو ليس حكرا على شخص ولا على صناعة بعينها. إنه موقف ثقافي عميق وشامل وجوهري، ويشكل على ما يبدو، جوهر تركيز مطلق على القيمة.
يتحدث أيضا في صفحة أخرى عن مدى أهمية مفهوم العار في الثقافة اليابانية، وكيف أن الفشل في العمل المهني أو اشتهار المنتجين برداءة منتجاتهم يولّد إحساسا بالعار لديهم. يقول في ص449: إنها خصلة أنثروبولوجية عميقة وربما فريدة في الثقافة والشخصية اليابانية، ويقال إن الموظفين اليابانيين يكرهون العودة إلى منازلهم باكرا لأن ذلك قد يولّد انطباعا لدى جيرانهم بأنهم لا يحصلون على عدد كافٍ من ساعات العمل، أو أنهم لا يحظون بتقدير عالٍ لدى شركاتهم، وستشعر الزوجة بحرج شديد من زوج هذه صفاته.
لستُ بحاجة للتذكير بتدني قيم العمل والممارسات عندنا. التأخر في الحضور للدوام والتسابق في الهروب منه وضعف الإنتاج والإنجاز وغيرها من السلبيات سمات لا تخطئها أعين المراجعين والمستفيدين. ولا أدري متى يمكننا الخروج من ذلك بالنظر شرقا؟!
أخيرا قد يسأل أحدهم: لماذا النظر شرقا، وليس غربا نحو التجربة الأوروبية؟ والجواب عند مهاتير هو في حداثة التجربة الشرقية. يقول ص441: ففي حين لا يوجد أوروبي حي واحد يتذكر الثورة الصناعية، يوجد عدد لا يحصى من اليابانيين والكوريين الجنوبيين الذين لا يزالون يستحضرون بوضوح تام الصعاب والتكاليف التي تكبدوها لحيازة المعرفة التقنية الصناعية الغربية وإدارة منشآتهم الصناعية.
إن أحد أسرار نجاح أي سياسة هو تجسيدها عمليا من خلال القيادة الداعية لها. وهذا ما فعله مهاتير بالضبط. يقول ص448: وكي أعبّر عن إيماني بسياسة «النظر شرقا» وبروح تجسيد القيادة من خلال القدوة، أرسلتُ ابني مخرز للدراسة هناك مع أنني أصررت على عدم إعطائه منحة حكومية. وفي ثمانينيات القرن الماضي، انضم ختني «أي صهري» إلى شركة يابانية، وعاش وابنتي وعملا في اليابان وأتقنا اللغة اليابانية؛ أي إن «النظر شرقا» لم يكن موقفا نظريا ولا سياسة شعبوية اعتمدتها؛ فأنا مارستها وأسرتي عاشتها.
للحديث بقية...
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.