في حضرة أمجد المحسن
فرغت مؤخرًا من قراءة كتاب «حضرة ذوات الأكمام» للشاعر المبدع أمجد المحسن. وهو ديوان شعر هائل بكل المقاييس، ويشكل مفاجأة سعيدة وكبيرة برغم معرفتي البسيطة بتجربة الشاعر واطلاعي على جانب منها، ولكنه في هذا الكتاب تجلى لي شاعرًا مبدعًا ومحلقًا في آفاق قل من يصل إليها من الشعراء في المنطقة وفي البلد عمومًا.
ولفرط ما فتنت بتجربته وأخذت بها فإنني أجد نفسي متحيرًا من أي الجهات أطرقها ومن أي الزوايا والأبعاد أتناولها. حين يكتب المحسن القصيدة العمودية، فهو شاعر لا يشق له غبار، أو لنقل لا يلحق بغباره إلا قلة قليلة من الشعراء، فقصيدته الكلاسيكية تنم عن هضم واستيعاب وتمثل لأبرز وأزهى نماذج التراث الشعري العربي الكلاسيكي في أكثر عصوره تألقًا وعند أبرز أسماء شعرائه تفردًا. وإن كنت لمست لديه تأثرًا كبيرًا، وربما سعيًا لا واعيًا لمحاكاة الشاعر اللبناني سعيد عقل.
أما شعر التفعيلة لديه فهو أكثر أصالة وإبرازًا لملامحه الخاصة وصوته المتفرد، خاصة في القصائد التي يتغنى فيها بجماليات الأمكنة التي ألفها ونشأ فيها وتعلق بها وتعالق معها. وفي حين تتسم قصائده العمودية بجزالتها ومتانتها المحكمة التي تذكرك بالبرناسية وما ارتبط بها من تقديس للجماليات، إن صح التعبير، فإن قصائد التفعيلة لديه تتخفف من تلك الجزالة والمتانة إلى حد كبير لتقارب واقع لغة الحياة اليومية بمفرداتها العامية «المفصحنة» أو العامية بالفعل، في تمازج سلس وجذاب وذي ملمح ونبرة خاصتين بهذا الشاعر الذي لم ينل حقه من ذيوع الاسم والمعرفة والشهرة التي يستحق قدرًا كبيرًا منها يوازي موهبته الكبيرة والمتفردة.
يقسم الشاعر كتابه/ديوانه الذي يقع في قرابة 400 صفحة «389 تحديدًا»، إلى تسعة أقسام، يحمل كل منها عنوانًا مستقلاً ويدور حول ثيمة واحدة في الأغلب، غير أن اللافت هو الحضور البارز لعدد من الأمكنة وتخصيص كل مكان منها بقسم خاص مستقل به، بدءًا من سنابس ومرورًا بصفوى والجارودية وأم الحمام وانتهاء بالهفوف.
في القسم الأول من الكتاب الذي يحمل عنوان «الدوخلة - سنابس»، هناك حضور طاغ للبحر، بكل ما يرتبط به من أجواء وعلائق ومفردات وثيقة الارتباط بالمكان والبيئة، مما قد لا يكون مألوفًا للقارئ البعيد عن تلك البيئة والثقافة المحلية بامتياز.
الأمر ذاته يحدث في القسم الخاص بصفوى المتاخمة للبحر، إضافة إلى التغني بداروش، احدى عيون الماء الشهيرة في صفوى. كما يعنون إحدى قصائد هذا القسم بمفردة غريبة هي «واتريمبو»، التي تتبع في النص بمفردة لا تقل غرابة عنها هي «وانيومي». ونعرف من خلال النص، وعبر الاستعانة بصديق، أن هذا التعبير الغريب جزء من أهزوجة شعبية كانت تُغنى في الأعراس قديمًا. والراجح هو أن هذا التعبير محرف من عبارة إنجليزية لست متأكدًا من منطوقها. ويبقى السؤال هو كيف تسللت تلك العبارة الإنجليزية إلى أهزوجة شعبية تزف بها العرائس؟
ختامًا أقول إن أمجد المحسن، الذي يُزف لنا في هذا الكتاب عريس شعر لا يضاهى، وبضعة شعراء آخرين مثله، ما فتئوا يزيدون من قناعتي الراسخة بأن الشهرة أولى بأن لا يعول عليها حين يكون الحديث عن الشعر الحقيقي والشعراء الحقيقيين.