الشعائر الحسينية بين التأصيل والتشكيك 3
استمراراً لما تم ذكره في المقال السابق في المحاور التي تتضمنها الشبهات حول الشعائر الحسينية والتي ابتدأت بمحورين الأول وهو التوهين للمذهب والثاني وهو الشعائر الحسينية وإصلاح الذات.
المحور الثالث: الإضرار بالنفس
يمر علينا مراراً القول بأن مطلق الإضرار بالنفس محرم بينما فقهاء الطائفة يقولون ان ما يحرم من الإضرار بالنفس هو الضرر البليغ جدا والذي يؤدي الى قطع عضو او تلفه وليس جميع مراتب الضرر، بل ان بعض الضرر قد يكون مطلوب ان كان في سبيل فضيلة او طاعة كالدفاع عن النفس مع احتمالية الهلاك فهو مطلوب حيث يحرم الإعانة على النفس وأوضح شاهد في أيامنا هذه هو حماية المراقد المشرفة والحسينيات والمساجد.
وأيضا الدفاع عن العرض والمال في فرض ظن السلامة مع عدم القطع بها وفي هذا قد ورد بسند معتبر عن المعصومين عن النبي «من قتل دون ماله فهو شهيد» - في ابواب الحدود في كتاب الوسائل -، وكذا احتمالية الضرر بشكله العام ان كانت لإغراض عقلائية مرضية لدى الشارع فان العقلاء لا يمنعون منها والشارع لا يحرم الإقدام على مواردها ومثال ذلك مخاطر عمليات الولادة والعمليات الجراحية حتى بعض التجميلية منها، وصعود الطائرات والغوص في البحار العميقة، ومن هذا يتضح ان الضرر الذي يحكم العقل بلزوم دفعه هو ما كان بليغا كقطع العضو وتلفه وهلاك النفس وما شابه، اما ما كان ضرره يسير فليس كذلك
ومن الجهة النقلية نذكر بعض الشواهد:
الأول: بكاء نبي الله يعقوب على ابنه يوسف مع علمه انه على قيد الحياة حتى وصل به الحال ان ابيضت عيناه، وقد قال له ابناؤه: «تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ» «1»
أقول: وهنا شاهد على ما ذكرناه سابقا من جواز الضرر في سبيل فضيلة والفضيلة هنا شوق النبي لنبي آخر «صلوات الله على نبينا واله وعليهما» وابيضاض العين كما في التفاسير وعند العرب هو فقدها.
الثاني: روي بسند صحيح عن الامام الصادق : ان النبي لم يعترض على نساء الانصار فيما فعلن في أنفسهن بعد قضية أحد حيث أنهن «قد خدشن الوجوه، ونشرن الشعور، وجززن النواصي، وخرقن الجيوب، وحزمن البطون حزنا على النبي وآله، فلما رأينه قال لهن خيرا، وأمرهن ان يستترن ويدخلن منازلهن...» «2»
الثالث: حين سمعت مولاتنا زينب اخاها الإمام الحسين ينشد: يا دهر اف لك من خليل... الخ. لطمت وجهها، وهوت الى جيبها فشقته، ثم خرت مغشيا عليها. «3»
الرابع: إغماء الإمام الرضا مرتين وقت سماعه إنشاد دعبل لقصيدته التائية المعروفة التي مطلعها «مدارس آيات خلت من تلاوة»، ووجه الاستشهاد «أنشد دعبل... فلطمت النساء وجههن وعلا الصراخ من وراء الستر، وبكى الرضا حتى أغمي عليه مرتين» «4»
أقول: الإغماء ليس أمر غير محتمل الضرر بل فوق هذا ثبت ان فيه معرضية للموت وكذا ذكر في الخبر لطم الوجه.
الخامس: بكاء الإمام السجاد الدائم والمستمر على أبيه طوال مدة عشرين سنة حتى خيف عليه من الهلاك وانه ما أتاه طعام الا وخلطه مع دموعه، ففي الصحيح الى ابي داود المسترق، عن بعض اصحابنا، عن ابي عبدالله قال «بكى علي بن الحسين على ابيه حسين بن علي عشرين سنة أو اربعين سنة، وما وضع بين يديه طعام الا بكى على الحسين ، حتى قال له مولى له، جعلت فداك يابن رسول الله أني أخاف عليك ان تكون من الهالكين! قال: «إنما أشكو بثي وحزني الى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إني لم اذكر مصرع بني فاطمة الا خنقتني لذلك عبرة»» «5»
الأخير: يقول الإمام الحجة في زيارة الناحية: «فلأندبنك صباحاً ومساءاً ولأبكين عليك بدل الدموع دما».
أقول: من المعلوم ان نزول الدمع من محجر العين لن يحدث إلا كنتيجة لضرر شديد في العين.
إضافة: قال تعالى «وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» «6»، والذي اريد ان أتعرض له هنا هو المقطع من الآية «ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة» حيث انه دائما ما يتم الاستشهاد بهذا المقطع من الاية الكريمة بالنظر له بأنه مٌحرم «لأي ضرر» داخل علينا مهما كان نوعه، ولعل هذا النظرة تولدت بسبب ما يشاع في مجتمعاتنا او بسبب ما قاله المخالفين فيها، فهل هذا التفسير صحيح وهل هو ما قاله اهل التفسير من الإمامية؟ ام هو مجرد فهم سطحي للآية؟
اما سياق الآية فهو في بيان شرح ترتب الإثم على عدم فعل ما أمر الله عز وجل وفيه الهلاك الدنيوي والأخروي، واما تفسير الآية «على اطلاقها» بحسب مفسروا الإمامية: فهو عدم إلقاء النفس في التهلكة الموجبة لإزهاقها او تلفها، ولا يعد أي ضرر هلكة للنفس، ونذكر على ذلك شاهد مما ورد في تفسير مجمع البيان للطبرسي «رض» حيث قال: «وفي هذه الاية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس، وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف، لان في ذلك القاء النفس في التهلكة... ». «7»
المحور الرابع: توقيفية الشعائر الحسينية
يقال « البدعة هي إدخال ما ليس من الدين في الدين وهناك من الشعائر المتداولة والمنتشرة في عالمنا الشيعي ما لم يرد فيه نص شرعي من قبل المعصوم وعلى هذا فهي بدعة والبدعة تشريع محرم ولهذا يجب محاربته!! »
وأكاد ان أجزم ان معظم من استنكر البعض من الشعائر الحسينية الثابتة كان لعدم اتفاقها مع ذائقته الذوقية وليس لأسباب شرعية حقيقية، وهو كما قال بعضهم عن ضرب السلاسل - الزنجيل - من انه بدعة، والذي هو شعيرة حسينية منتشرة في العالم الشيعي كله.
والجواب على هذه الشبهة يتلخص في التالي:
يجب أن نعرف أن الشريعة المقدسة في تشريعاتها لها عمومات وكليات ولها مخصوصات، فكما يقول علماء الأصول: من أن الشارع إذا أمر بفعل كلي ولم يخصص ذلك بزمن معين او مكان معين او بعوامل معينة فللمكلف ان يختار كيفية ذلك وهو ما يٌعبر عنه بالتخيير العقلي ومثاله الصلاة في المسجد من غير تحديد فهو راجع للمكلف، وكذا الكفارة بعتق رقبة، فللمكلف ان يختار من يريد ان يعتقه، والذي يأتي في قِباله التخيير الشرعي والذي هو ان ينص الشارع بنفسه على التخيير، وعلى سبيل الإيضاح لنتكلم في خصوص الشعائر الحسينية من جهة الأدلة الخاصة والعامة، فاذا نظرنا الى الأدلة الخاصة، فهي كما تقدم ذكره من أدلة استحباب البكاء على الحسين كمثال، واما إذا جئنا الى العمومات، فان الفقهاء يقولون باستحباب الشعائر الحسينية غير المنصوصة بالأدلة التي تكون ضمن إطار العمومات والكليات من قبيل اية المودة «قل لا اسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى»، فالمودة تكون بالفرح لأفراحهم والحزن لأحزانهم، بحيثية ان المودة هي مرتبة أرقى وأعلى واشد من المحبة ويشترط فيها صدق الحب وكذا إبرازه وإظهاره ومن هنا نحن نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، والمسلمون بعمومهم يظهرون صدق مودتهم للنبي بالاحتفال بمولده صلوات ربي وسلامة عليه رغم عدم ورود نص شرعي لديهم في ذلك، ولذلك قالت الوهابية ان المولد النبوي بدعة ولكن لم يُلتفت لهم فلا دليل على تحريمه بل هو راجع لما سبق ذكره.
ومن العمومات أيضا اية الشعائر «ذلك ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب»، فالشعائر هي العلامات كما سبق توضيحه ويخطأ البعض بالقول ان الشعائر الإلهية مثلا هي نفسها مناسك الحج في حين أنها العوارض الإعلامية الخارجية الداخلة عليها لا نفسها بما هي طبيعة تكوينية بل من جهة الجعل، قال تعالى «والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خيرا» «8»، فالبدن هي من الإبل، ولهذا ليس نفس البدن بوجودها التكويني هي شعيرة، بل بما جعلت من الله للجنية الاعتبارية فيها أصبحت شعيرة، ولهذا كانت الحسينيات موجودة ولم يقل احد أنها بدعة وكذا الحال حاليا بالنسبة للمعارض الصورية والتجسيمية للمشاهد المقدسة ولأحداث فاجعة كربلاء والتي لم نسمع من استنكر عليها بأنها بدعة، وآخر مثال على العمومات هو ما ورد في أدلة الجزع على الحسين التي تقدم ذكرها والذي تم التوضيح عندها ان الجزع بما هو يعد عنوان عام على قلة الصبر على المصاب ويتمثل في أمور كثيرة مثل لطم الصدر وشق الجيب وغيرها. وبعد هذا يتضح انه لا يصح انطباق عنوان البدعة على مثالنا المطروح الزنجيل وغيره، وحينما ذكرت ان من يعترضوا على الزنجيل من جهة انه بدعة كان بالنظر لذائقتهم لا الجهة الشرعية، فلأنه كما هو واضح ان هؤلاء لا تجدهم يعارضوا ما يخضع لذائقتهم من قبل المسرحيات والمعارض الفنية الحسينية والمجسمات والعروض التمثيلية المونتاجية بل ينظروا لها على أنها أمر «حضاري»، ولكن قد تجدهم يعترضوا على الشبيه والذي ليس هو إلا تمثيلة لواقعة كربلاء غالبا تكون بطريقة المسيرة في الطرقات، وكذا حالهم بالنسبة لسفرة أم البنين والتي ما هي إلا اجتماع للمؤمنين وإطعامهم وإحياء مأتم حسيني، وهناك العديد من الأمثلة الأخرى.
ومن جهة أخرى فإن حالة التضييق على أئمة أهل البيت وشيعتهم لم تترك الفرصة لظهور شعائر أكثر من التي وصلنا خبرها.
ولكي تكون الصور واقعية أكثر فهذه شواهد من أجوبة وتعليقات لبعض الفقهاء على توقيفية الشعائر الحسينية:
الميرزا القمي «قد»: صاحب القوانين في كتاب جامع الشتات قال بجواز ورجحان الشبيه ضمن الشعائر الحسينية، وكان استدلاله بعمومات البكاء والإبكاء من جهة انه من مصاديقه بحيث ان يؤدي لإثارة عواطف الآخرين واستدرار دمعتهم.
السيد الكلبيكاني «قد»: في فتواه بجواز الشبية واستدلاله بعمومات الإبكاء. «مجمع المسائل»
الشيخ كاشف الغطاء «قد»: قوله بجواز الشبية «كشف الغطاء ص54»
السيد الخوئي «قد»: ص 143، يمضي جواب السيد الكلبيكاني بالتأكيد عليه من ان اللطم و«الزنجيل» و«الشبيه» صور من تعظيم الشعائر الحسينية وذلك في جمادى الأولى 1401. «العزاء التقليدي للشيعة الجزء السابع ص 143 - فارسي»
الميرزا التبريزي «قد»: في جواب له على سؤال حول الشعائر الحسينية بطلب التعليق على القول ان الشعائر الحسينية هي طقوس لم تكن في زمن الأئمة فلا مشروعية لها، فكان الجواب: «بسمه تعالى: كانت الشيعة في زمن الأئمة تعيش حالة التقية، وكانوا يقيمون مظاهر العزاء بما يمكن لهم، وعدم وجود الشعائر في وقتهم مثل زماننا إنما هو لعدم إمكانها، وهذا لا يدل على عدم مشروعيتها في زماننا». «الشعائر الحسينية للتبريزي، ص 11»
السيد صادق الروحاني «معاصر»: قال «دعوى ان الشعائر الحسينية توقيفية دعوى زائفة لا دليل عليها، بل الدليل قد دل على محبوبية تعظيم الشعائر، واما تطبيق عنوان الشعائر على مصاديقه فهو موكول الى المكلفين». «قربان الشهادة، ص 78»
الشيخ الوحيد الخراساني «معاصر» قال ضمن خطبة له: «الويل للذين يريدون خدش هذه الشعائر، استيقظوا!، يا أهل ايران.. اعلموا، أن اصغر كلمة تؤدي الى تضعيف الشعائر الحسينية إنما تكسر ظهر خاتم النبيين، كل هذا العزاء، كل هذا اللطم، كل »ضرب السلاسل« هذا، يجب الحفاظ عليه بالحد الأعلى.. ». «خطبة بالمسجد الأعظم/ قم»
أقول: الشاهد هنا ان سماحته قال عن ضرب السلاسل انه من الشعائر رغم عدم ورود نص مخصوص بذلك علاوة على انه عبر بخطاب شديد ان أي كلمة تؤذي الى تضعيف الشعائر - بما فيها الزنجيل - تقصم ظهر خاتم النبيين .
هذا وأغلب أكابر الفقهاء ذكروا مثل ذلك ولكن لا يسع المجال لذكر كل ذلك لأنه سيحتاج صفحات عديدة لملأه وإنما ذكرت الأمثلة السابقة فقط من باب توضيح الرؤية بشواهد.
خاتمة
ما تم ذكره وبيانه في هذه المقال هو لغاية أن تكون هنالك صورة إجمالية عن مفهوم الشعائر الحسينية وما يرتبط به من شبهات واثارات، ولكن في مجال العمل فكما هو من الواضحات أن يرجع كل مكلف الى ما أفتى به مرجعه وهذا ما يجب التأكيد عليه.