حسينية النسوان
في حيّنا الصغير في شمال تاروت، كانت هناك قارئة حسينية بارعة بمعايير ذلك الزمن. تدعى القارئة أو ”المُلاّية“ أم نصر رحمها الله.. كانت إمرأة فاضلة بشوشة سهلة الطباع وذات صوت شجي، وكانت دائمة التردد على بيتنا بحكم صداقتها الحميمة مع والدتي رحمها الله، لكون ما يفصل بيتها عن بيتنا هو فقط الحسينية التي واظبت طيلة حياتها على القراءة فيها، وهي ”الحسينية الغربية“ التي كان يشرف عليها الراحل والدي. هذه الحسينية وغيرها هي المساحة التي أود من خلالها التحليق في إطلالة على أجواء حسينية النسوان، أو ”العزيّة“ بحسب الدارجة المحلية.
الحسينيات النسائية عالم مختلف وغير مألوف عند معظمنا. اذ بخلاف الحسينيات الرجالية التي باتت حاضرة على الفضائيات كانت الحسينيات النسائية، ولاتزال، مساحة خاصة إلى حد العزلة، نتيجة ظروف الفصل بين الجنسين. وقد يختلف سكان هذه البلاد ببدوهم وحضرهم، سنتهم وشيعتهم، في أي أمر آخر، لكنهم لا يختلفون على الفصل الصارم بين الجنسين!. ولذلك، فإن كل ما يرد هنا، لا يعدو عن ذكرى ومشاهدات فتى صغير، شاءت الأقدار أن يفتح عينيه على هذا العالم بأغلب تفاصيله، بحكم النشأة التي أوردت طرفا منها في مقالة سابقة.
الحسينيات النسائية عالم فريد من نوعه. فما أن يهل الأول من شهر محرم وحتى نهاية شهر صفر، إلا وترتدي الأمهات السواد طيلة ستين يوما متواصلة، وما أن يعلو صوت الناعية ”المُلاّية“ في سرد فاجعة كربلاء، في مثل هذه الأيام العاشورائية إلا وتسدل أمهاتنا ”شيلاتهن“ السوداء على وجوههن، لتنفجر خلفها العواطف الصادقة، ولتذرف الدموع الساخنة مدرارا في حب الحسين وأهل البيت، وليس هناك منا من لم يتبلل وجهه مرارا بدموع والدته المنسكبة حزنا على مصيبة أهل البيت وهو في حضنها ملفوفا بقماطه.
تحتل عذوبة الصوت وحسن القراءة سلم الأولويات في عمل ”المُلاّية“. اذ على قدر براعة المُلاّية في استدرار العواطف والدموع واجتذاب تفاعل وحماسة الحاضرات، يجري الحكم على ثقل وصيت ”العزيّة“ ومن ثم المُلاّية نفسها، سيما إذا عرفنا بأن كثيرات منهن يحيين ”عزيتهن“ بأشعار بكائية ولطيمات هي من تأليفهن حصرا. وفي هذا الشأن انحصرت شهرة معظم ”المُلاّيات“ ضمن نطاق أحيائهن الصغيرة والأحياء المجاورة على الأكثر، والقليل منهن من حققن نجاحا خارج مدنهن، ولذلك ربما ربط مباشر بانعدام وسائل المواصلات في أزمان ماضية. ولعل احدى اشهر القارئات؛ المرحومة ”عقيلية“، نسبة لعائلتها ”العقيلي“ الشهيرة في تاروت وصفوى، فقد استطاعت الراحلة ”عقيلية“، وهي بالمناسبة والدة الحارس الدولي والمدرب الحالي الأخ حسين الصادق، استطاعت أن تتجاوز نطاق بلدتها ”الربيعية“ وباتت تحيي المجالس الحسينية في مناطق أخرى في محافظة القطيف.
وللحقيقة، لا يمكن القول أن ”حسينية النسوان“ تمثل مساحة دينية محضة. فإلى جانب الوظيفة الدينية كانت تشكل المجالس الحسينية النسائية مساحة ومتنفسا اجتماعيا نسائيا واسع النطاق، قياسا على العزلة الاجتماعية المفروضة على النساء عموما في بلادنا. إذ ما أن تنتهي ”المُلاّية“ من سرد المصيبة الكربلائية التي تتفطّر لها القلوب، وما أن يهدأ العويل والنياحة التي ترتجّ بها أركان الحسينية، إلا ويبدأ فصل آخر بطابع اجتماعي هذه المرة.
اجتماعيا؛ كانت الأحاديث النسائية تتشعب بعد فراغ ”العزية“. فعلى وقع صوت وغمامة دخان ”القدو“ وفناجين القهوة السوداء تجري الثرثرة في أغلب تفاصيل الحياة اليومية للحي، من خطوبة وزواج وطلاق وخلافات ومشاكل وألوان الطبيخ ومشاكل الأولاد، وصولا إلى استغلال بعضهن الفرصة في عرض ”بياعتهن“ المكونة من بعض الحلويات لبيعها على الأطفال الحاضرين برفقة الأمهات، فيما قد تنشغل أخريات في ”السفاف“ باستخدام خوص النخيل، ولتستخدم في وقت لاحق في صناعة الحصر والزنابيل والقفاف وسفر الطعام.
لاشك أن تغيرا كبيرا طرأ على الحسينيات النسائية في وقتنا الحاضر. وبرغم كل الملاحظات التي يمكن أن تقال هنا، إلا ان شيئا واحدا لم ولن يتغير فيما أحسب، ألا وهو ذلك النبع المتدفق والشلال الهادر من العواطف الجياشة والحب اللامتناهي لأهل البيت الذي تفيض به الحسينية الصغيرة مساحة والهائلة السعة أفقا ومحبة وتعاطفا مع النبي وآله.