الشاعر أمجد المحسن جواهري القطيف المجهول
أمجد المحسن شاعر آت من زمن غبار المعارك ، قبل أن ينزف جرحه الغائر على ضفاف الوجود يباغتك زمنه العبسي يستدركك بتار قريضه ، يحمل القافية قربة ماء إلى عطاشى المظلومين في زمن عزت فيه التضحيات حسينية تأبى الحيف ، لا أداة للتلميع والاستزلام ، فهو دعبل في غيرته على الشريعة ، وهو الكميت في حميته وأنفته ، يسدد خطيه قلماً جارحاً عندما يثور نقيعها، يعلق فوقه هامات رؤوسها المقامات القطيفية :
ويا له من قلب متيم موله إذ يردف بعد أن تخفق قلوب أوتاره عزفاً :
حين يعز الماء على محارب كمثل قامته يجود الشاعر أمجد بدمع عيونه سلسبيلاً ، على ساحله سواحل تغيض وتفيض مداً وجزرا حين يرمي بصره أقصى الأدب يكاد ينظر البصير إلى حروفه المموسقة حد الروعة بلا غشاوة ، يخترق القرون برؤية ثاقبة كمن يبصر الواقع من خلف حجب الغيب عياناً (قصيدة طلحة مثالاً) كمنطلق لتوصيف الواقع العراقي مع قوة الاحتلال الامريكي الغاشم يقول فيها : -
قُربَ البَصْرَةِ ،
كانَ الماءُ المؤتمِرُ بكِسْرَى .
جاءَ حجازٌ ، أسلَمَت البَصْرَةُ ، وارتَبَكَ الكُمَّثْرَى !
دقَّ غُبارٌ كَعْبَ الفنجانِ ! ..
ترحَّلَ وتَرُ البدوِ إلى الجهة الأخرى ،
ومِنْ البَصْرَةِ حتَّى بُصرَى ، دُحرجَ كُمَّثرَى !
واستُدْرِج كُمَّثرَى !
مالَ الهودَجُ عَنْ مَسْطَرَةِ الجَمَلِ ،
وطاحَ الجَمَلُ ، انْكَثَرَتْ في الجَمل سكاكينُ الذّبحِ ، استشرَى الذّبحُ ..
استضرَى !
قُربَ البصرَةِ ، طلحةُ نامَ ، وأفزعهُ صوتُ المُنفجَرِ ،
فطارَ النّومُ
وطار القبرُ !
وبُعثِرَت الكُمَّثرى ....
هما قوسين للتاريخ يترسمهما أمجد يقارب بهما اللحيظات دون أن يكون بمقدور الأحداث أن تمرق من ذاكرة مرقاص الساعة الصورة المتخندقة في بؤبؤ الزمن :
طلحةُ ،
لم يُعقَرْ جَمَلُ الحربِ ،
ولم يُعقَرْ زَمَنُ الأمسيِّين ....
ولم تُعقَرْ أشكالُ الخوفِ ،
ولم تنتَه أزمتكم مُنذُ قُرُون !
يا طلحةُ ، هل تذكُرُ أين ثَوى جملُ الحربِ ؟
ولن تتذكَّرَ ...
فالجملُ هُنا في السّوقِ هُنا ، في الشّارعِ يمشي ويخُورُ ...
ولعل أمجد يقارب بمضارعته "يمشي" "يخور" بين بقرة بني إسرائيل وبداوة الفتنة ، إذ الخوار للبقر أو الثور دون الجمل ليزيد الصورة وضوحاً بعد أن يموضعها .. يجسرها بدقة في عين المشاهد في زمن ثقافة الصورة لتتحدث الألوان بلا زيف .
فالجملُ هُنا في السّوقِ هُنا ، في الشّارعِ يمشي ويخُورُ ...
ومازالَ يُعالجُ رائحةَ الدَّمَيَـيْنِ بأكلِ الصَّبَّار ،
ويسكنُ خُرَّمشهرَ ...
ويغتسلُ بماءِ الميسيسبي المبروك .
جمل الفتنة هذا أصبح عابراً للقارات في مصانع الاستخبارات الدولية يتماهى بشكل فظيع مع أجندات الجهل والمصالح المقيتة
رأيتُ الجملَ على قارعة الإسفلت ....
الإسفلت الحارّ ،
رأيتُ الجملَ على السُّورِ الدّائرِ حولَ ديارِي ،
الجمل الرمز هذا يتغلغل في كل مفاصل الحياة يتخذ من الفن سلطاناً ينفذ به إلى أقطار القلوب :
ورأيتُ الجملَ على المسرحِ يرقُصُ عرفاناً لنُحاسِ الآلاتِ ...
رأيتُ الجملَ يكوِّرُ صلصَالاً ،
ويقيءُ على ثوبِ العُمدةِ زبَدَه !
رأيتُ الجملَ يُؤنِّقُ ربطَةَ عُنُقِه
تركَ الغُترةَ فوق النّخلةِ ، واختارَ ربابَةَ باغانيني !
لا يعنيني ؟
رأيتُ الجملَ يُثيرُ الفتنةَ
بين الفحمةِ والكبريت !
ويلبسُ تي شيرت الشيطان ،
رأيتُ الجملَ يُفتّشُ عن عُنوانٍ لكتابٍ ما في مكتبة الجامعةِ ،
أمجد المحسن جواهري القطيف وجوهرتها لا بل وأخطلها تجد في شعره حكمة زهير بن أبي سلمى وحزن الخنساء وإباء المعري وشيمة أبي الطيب المتنبي ، هو الشعر كله يجدله في تهيلةِ القهوة سمراً في رؤوس العشاق ليستقر في ذاكرة الذوق إذ يقول :
بلِّغ سلامي لمنْ حَمَسَ الشّوقَ مِن أجلِنا ، ولِمن هيَّلَه .... ،
ألم يقولوا قديماً الشعر ديوان العرب ، هو ذا أمجد يرتل يتأرخ شعره يمازج بفراسة لغته كلما ضرب نافوخ الحرف سديم إبداعه ، يطلقها مدونة يغيض منها البيان بديع سحر ، لغة ما أشهاها لتنسدل من بعدها ستائر النور عن فتنة قريضه عن مسرح سماواته .
جُرَّ قوسَكَ أيُّها العزَّافُ ، واشرحنِي ،
أنا الهائمُ في قاموسِهِ الشّجَويِّ بين الرّملِ واليامال ، طوِّحني
على اليامالِ ، أفرَحُ !
جُرَّ قوسَكَ أيُّها العزَّافُ ، أطلِقْ صوتَكَ الرّاعشَ في البيداءِ ، وامنحني
بلاغَ الصَّقرِ، أجنَحُ !
أمجد ما هو بشاعر قبيلة بل قبيلة شعراء ومدرسة كلاسيكية أبعد ما تكون عن المفهوم الكلاسيكي المتعارف عليه ، وأكاد أجزم لو ولد هذا الشاعر في بيئة غير القطيف لصافحته سماواتهم وأظلته أحداق عيونهم .
قال عنه الشاعر الاستاذ بدر شبيب الشبيب : -
شاعرنا الكبير : لو كنت في البرازيل لاكتشفوك كما يكتشفون لاعبي كرة القدم الموهوبين ولأصبحت بيليه الشعر عندهم ، لا أدري متى ستعرفك الخط وأنت الذي وهبتها حرفك الأنقى وأشرعت لها غميلتك .
وقيل عنه أيضاً :
شاعر بقامة " أمجد المحسن " غير مشهور قطيفيا ، زاهد في التعريف بذاته ، يمتلك إمكانيات تفجير اللغة بما يساوي معجزة ..!
سؤالي الأهم من تسليط الضوء على قامة كأمجد المحسن ، لماذا تجهل أو تتجاهل القطيف (القبيلة) ولادة شاعر بحجم أمجد المحسن ونحن في القرن العشرين بينما العصور الجاهلية تتفوق على مجتمعاتنا فتحتفي بشاعرها وتقيم ولا تقعد له أسواق عكاظها ، ترى هل الجاهلية تملك من زمام المبادرة ما تعجز عنه وسائل عصرنا المتقدمة ، عصر الانترنت و الفيس بوك والتويتر وأحدث آليات التواصل اللحظية بما يهدد مكانة وسائل أعلام الحكومات وصولجاناتها فتضطر لحجب الحقيقة خوفاً من لسانها السليط ؟
لماذا أصبح مقياس الشعر ومعيار نضجه ثقافة البترودولار (شاعر المليون مثالاً ) لتكون في خدمة "الزيطة والزنبليطة" العربية ، أتراها اختلفت المعايير فما عادت جاذبية اللغة وجمالياتها مقوماً لرقة العبارة وجزالتها ، هذا يذكرني بقولة الدكتور أبو فراس السيد عدنان الشخص حينما أراد أن يلتحق بسلك التدريس الجامعي اعتذروا عن قبوله نظير إعاقة في رجله فقال لهم بلسان فصيح لأول مرة أعرف أن العلم في الرجل وليس في الرأس .
إذاً لا تستغربوا إذا تم قلب هرم المقاييس في زمن ثقافة البترودولار وأصبحت ديمقراطية الأصوات هي القابلة التي تهب للشعر معايير جودته.