الجاهلون وعمرك الثمين
هناك من يستمرئ جهله، ويَستحِب العمى على الهدى، ويحاول استدراج الآخرين لمستنقعاته الآسنة من خلال إشغالهم في سجالات عقيمة أو مهاترات ممجوجة أو أشياء غير ذات قيمة، إثمها أكبر من نفعها.
الجاهلون هم من سُرّاق العمر المحترفين الذين قد يقع البعض غفلة في شِباكهم، فلا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا للخروج منها، وربما يقضي عمره كله هدرا دون أن يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان. أما المؤمنون حقا، فإنهم تبعا لإدراكهم العميق بالعمر وأهميته، وأنه لا ينبغي أن يُهدر منه ولو أقل مقدار إلا في سبيل تحقيق الغايات السامية النبيلة المنتهية إلى رضوان الله تعالى، هم في يقظة دائمة من حبائل الجاهلين. يقول تعالى مُخبرا عن موقفهم من توافه الكلام من سب، وشتم، وخروج عن الذوق والأدب، وفضول القول، وأمثال ذلك من مضيعات العمر والشخصية: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ». ويقول أيضا عن عباد الرحمن: «وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً». ولما حكى عن شكوى النبي من قومه الجاهلين المتعصبين المعاندين، أعقب ذلك بإرشاده لما ينبغي من موقف تجاه سلوكهم من إعراض عنهم وبعد عن دائرة جهلهم؛ يقول تعالى: «وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».
وعلى هذا النهج القرآني جاء ما ورد عن الإمام علي في وصيته لتلميذه كُميل إذ يقول له: « يا كميل في كل صنف قوم أرفع من قوم، فإياك ومناظرة الخسيس منهم وإن أسمعوك، واحتملْ، وكن من الذين وصفهم الله «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً». »
إن من صفات المؤمنين الأساسية هي عدم التفاعل مع الإثارات والاستفزازات اللَّغْوية التي لا طائل من ورائها: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ». يقول صاحب التحقيق: "المؤمن هو يديم حياته تحت برنامج دين الله تعالى، ويعمل على مقتضى أحكامه وأوامره ونواهيه، وهو عبد مطيع لمولاه، لا يغفل عن وظائف عبوديته طرفة عين، وهو معتقد بأن الله عز وجل يرى مقامه ويسمع كلامه، وما يعمل من مثقال ذرة من خير أو شر إلا ويصل إليه أثره في الدنيا وفي الآخرة.
فكيف يمكن له أن يشتغل بلغو يشغله عن التوجه إليه وعن العمل بوظائف عبوديته، ويكون حاجبا بينه وبين ربه".
إذن يتلخص موقف المؤمن من الجاهلين بالإعراض عنهم، وعدم الانجرار لساحتهم، وإعلان مباينة أعمالهم «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ»، ومن ثم الانفصال عنهم «سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» ففي الابتعاد عنهم مغنم، وفي القرب منهم مغرم. وقد فصّل النبي ذلك حين سأله أحدهم عن أعلام «أي علامات» الجاهل فقال : «إِنْ صَحِبْتَهُ عَنَّاكَ «أي أتعبك»، وَإِنِ اعْتَزَلْتَهُ شَتَمَكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَ مَنَّ عَلَيْكَ، وَإِنْ أَعْطَيْتَهُ كَفَرَكَ، وَإِنْ أَسْرَرْتَ إِلَيْهِ خَانَكَ، وَإِنْ أَسَرَّ إِلَيْكَ اتَّهَمَكَ، وَإِنِ اسْتَغْنَى بَطِرَ وَكَانَ فَظّاً غَلِيظا، ً وَإِنِ افْتَقَرَ جَحَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ وَلَمْ يَتَحَرَّجْ «أي لم يجتنب عن الإثم»، وَإِنْ فَرِحَ أَسْرَفَ وَطَغَى، وَإِنْ حَزِنَ أَيِسَ، وَإِنْ ضَحِكَ فَهِقَ «أي فغر فاه»، وَإِنْ بَكَى خَارَ «أي جزع»، يَقَعُ فِي الْأَبْرَارِ «أي يذمهم» وَلَا يُحِبُّ اللَّهَ وَلَا يُرَاقِبُهُ، وَلَا يَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ وَلَا يَذْكُرُهُ، إِنْ أَرْضَيْتَهُ مَدَحَكَ وَقَالَ فِيكَ مِنَ الْحَسَنَةِ مَا لَيْسَ فِيكَ، وَإِنْ سَخِطَ عَلَيْكَ ذَهَبَتْ مِدْحَتُهُ وَوَقَّعَ فِيكَ مِنَ السُّوءِ مَا لَيْسَ فِيكَ فَهَذَا مَجْرَى الْجَاهِلِ».