في ضرورة إبراز النزعة الإنسانية للدين
لئن كانت هناك حاجة إلى مراجعة التراث الديني ونقده، من أجل تفكيك الظواهر السلبية، وبالخصوص الظاهرة الإرهابية، ومحاصرة العنف المستشري في مجتمعاتنا، فإن هناك أيضاً حاجة إلى هذه المراجعة من أجل تقديم رواية مختلفة عن الإسلام وقيمه ومفاهيمه، مغايرة عن الصورة التي روجتها الجماعات العنفية، وتقديم صورة تظهر الإسلام كدين إنساني رحيم ومتسامح ومنفتح على غيره من الأديان، وأكثر رحابة في تقبل الآخر المختلف ديناً أو مذهباً واحترامه، واستيعابه والتعايش معه، وليس كما تروج له جماعات العنف وتمارسه من تضييق في الفهم، تكفر الآخرين على أساسه، فتخرجهم من ملة الإسلام، وتهدر كرامتهم، وتبيح قتلهم.
فإذا كان العنف الإرهابي المستشري في بعض أوطاننا هو من نتاج منظومتنا الثقافية، وأفكاره مستلهَمة من بعض تراثنا، نتيجة ما علق وتراكم من تشوهات على مر العصور، مما أدى إلى تغييب النزعة الإنسانية للدين، وانزياح معانيه الأخلاقية والقيمية، وحجب جوهره الأصيل، فإنه ليس أمامنا في هذه اللحظة التاريخية إلا امتلاك الجرأة والاعتراف بهذه الحقيقة، واتخاذ ما يلزم من إجراءات مناسبة تحد من تغول تلك الثقافة السلبية، وتواجه الصّور المنحرفة والمشوِهة للدين ومبادئه، وتعمل على إبراز نزعته الإنسانية، وتُعلي من قِيمه السامية.
فالإسلام في حقيقته دين رحيم متسامح وسطي، يرفض الإرهاب والقتل والتكفير، ويحترم حق الإنسان في الحياة، والعيش فيها بكرامة. فالقرآن الكريم يؤكد على الجانب الإنساني في الدين، من خلال قوله تعالى «ولقد كرمنا بني آدم». فتكريم الإنسان هو في كونه إنساناً، بغض النظر عن دينه ومذهبه، أو جنسه وجنسيته، أو لونه ولغته، حيث لا يجوز التعرض له ولكرامته، والاعتداء عليه من دون وجه حق، أو انتهاك حقوقه الإنسانية.
لذلك من الحريٌ العمل على إطلاق ثورة فكرية تستهدف تنقية الموروث الإسلامي، وتصفية غثه من سمينه، وتطهير العقول مما ترسّخ فيها من غلو وتعصب وتطرف. وهو الأمر الذي تتحمل مسؤوليته كل النخبة القادرة على صياغة ثقافة الناس ووعيهم، وتشكيل عقول الأفراد ووجدانهم، من علماء ومفكرين ومثقفين، إلى رجال دين ورجال سياسة، فضلاً عن الفقهاء العالمين بالدين وجوهره، ودُور الإفتاء والمراكز العلمية الدينية، والجامعات والمدارس، وكل من هو حريص على دين الإسلام وصورته.
ولن تقتصر مسؤولية النخبة على مراجعة الموروث وتنقيته مما علق به من تشوهات فقط، بل سيكون من مسؤوليتها أيضاً العمل بجد على إحياء النزعة الإنسانية في الخطاب الديني، وإظهار البعد القيمي والجانب الإنساني في الإسلام، والتوعية بمعانيه ومقاصده السامية، من خلال إبراز النصوص الدينية التي تعبر عن سماحته ومرونته ويسره واستيعابه للمختلف، كما تقول هلا الجهني، «بحيث يتم توظيف المفاهيم الدينية للغايات والمقاصد الربانية التي تراعي حقوق الإنسان وإنسانيته وكرامته ومشاعره وتحفظ دمه، وألا يكون تعاملنا مع تلك المفاهيم بمعزل عن تحديات العصر الحالي ومتغيراته ومشكلاته الاجتماعية التي أثرت على وحدة المجتمعات الإنسانية، والتركيز على غرس القيم الاجتماعية والضوابط الأخلاقية التي توجه سلوك الفرد وتحدد دوره وتحصنه لاحقاً من ارتكاب أي فعل يخالف ضميره وقيمه وأخلاقه، وربط النصوص الدينية بالواقع الاجتماعي وخلق مساحة تفاعل بين النص الديني والواقع الاجتماعي المعاش، وإبعاد أي مفهوم يدعو للإقصاء أو تكفير المختلف، وتكثيف المفاهيم التي تدعو للتسامح والحوار بين أفراد المجتمع على اختلاف مذاهبهم وأجناسهم».
إن مراجعة الأفكار والمفاهيم المتوارثة والسائدة، وتجديد الفهم لها، يتطلب العودة إلى أصولها ومصادرها، والإعلاء من دور النص الديني، وتوضيح الجانب/البعد القيمي والإنساني فيه، واعتباره المعيار الأساس في مراجعة الموروث وتقييمه، وفي تنقيته مما أصابه وعلق به من تشوهات، ناهيك عما نسب وينسب إليه من انحرافات.
وبناءً على ما تقدم يمكن لهذه المراجعة أن تؤدي إلى استنباط واستخراج وتفجير معاني ومضامين مختلفة، وخلق منظومة فكريه وأخلاقية جديدة، ذات أبعاد إنسانية جليلة، تعلي من قيمة الإنسان كإنسان مهما كان انتمائه، وتُفعّل طاقاته الروحية، وترفع من قيمه الوعي والثقافة الخلاقة فيه، بوصف ذلك ضرورة وحاجه إنسانيه، لا بديل عنها في عمليه البناء والتغيير والفعل الحضاري المنشود، ومن أجل الرقي بالإنسان إلى ما هو خير له ولشركائه من كل بني البشر، وفي كل المجتمعات الإنسانية كافة، ومهما اختلفت انتماءاتهم القومية والعرقية والدينية والمذهبية والفكرية والاجتماعية.
غير إن حالة الخوف وانعدام الثقة والعداء والاقتتال بين مكونات الأمة، وما يعصف بها من تمزقات وصراعات وخلافات مذهبية وطائفية، لن تكون نتيجتها مع استمرارها وتأزمها وتفاقمها وتفاعلاتها وارتداداتها، إلا الانحدار والانحطاط والسقوط في الهاوية، حيث تتصارع وتتقاتل المكونات الاجتماعية المختلفة فيما بينها بشكل وحشي ودموي، حيث تهدر فيها كرامة بني البشر، ويذهب ضحيتها الآلاف منهم، اعتماداً على مقولات وأفكار وآراء وقراءات مستنبطه ومستخرجه من تراث زمن مضى وانتهى أوانه.
ففي الوقت الذي لا يوجد ما يدعو إلى نبش هذا الماضي واستدعائه من بطون كتب التراث، فإن الواقع المعاصر يطرح أسأله مغايرة، وتحديات مختلفة، تحتاج إلى اجتهادات معاصرة، وإجابات حديثة، تواكب مستجدات العصر، وتتفاعل مع تحدياته وإشكالاته. اجتهادات تتجاوز مشكلات الماضي وعقده، ومنظومة أفكاره المتوارثة منذ قرون، بحيث تتخلق منظومة أفكار بديلة وجديدة، تكون ذات معاني وأبعاد إنسانية أصيلة، تُعمق القيم والأخلاقيات والمبادئ الإنسانية، وتعمل على تحصين البيئات الاجتماعية، وترفع مستوى المناعة لديها، وترتقي بالإنسان وأخلاقه، وترفع من مستوى وعيه، وتحفظ حياته وحقوقه وكرامته.