شهرة «رغد دايز»
حادثة التجمهر في أحد مولات جدة والمعروفة عبر هاشتاق إنتشر بشكل واسع مؤخراً تحت عنوان «#رغد_دايز»، أصابت البعض بالقرف.
وهو قرف من نوع خاص يستوجب التوقف عنده والتأمل فيه ملياً، لأنه في النهاية سيجيب على أسئلة مهمة.
ولا أخفيكم أنني منذ فترة طويلة وأنا أراقب على مواقع التواصل الإجتماعي وعبر مختلف المنصات الإخبارية شعبية التفاهة في مجتمعاتنا والمجتمعات الأخرى الغربية وغيرها على السواء، ليس رغبة في التفاهة، لكن بغرض دراسة مؤثر قوي من المؤثرات التي تحرك ساحات المجتمعات البشرية وتؤثر فيها.
قرف بعض من قرفوا من حادثة تجمهر «رغد دايز»، ولكن هذا البعض ويا للمفارقة لا يقرف ولم يقرف أبداً من القشرية والسطحية التي تشهدها مختلف سوح الخطابة الدينية التي يعشقها، والتي ترتفع فيها شعبية التكفير والتنطع والتشدد والخرافة والأساطير التي تحرك جمهورها العريض، فلم القرف هنا وإنعدام القرف بل النشوة بالتفاهة هناك؟!.
لو عدنا لنستذكر قليلاً الماضي القريب وأحوال الماضين ثم عدنا للمعاصرين، ففي يومٍ ما كنا نشهد جمهوراً للمصارعة الحرة، يتحلق حول عراك سخيف، ولازلنا حتى اليوم نتحلق حول كرة من المطاط تركل جيئة وذهاباً، فيما يعتبره البعض تفاهة ومضيعة للوقت - ولا نقصد التعميم هنا طبعاً -، بل في الوقت الذي يعتبر البعض ذلك - بما فيه من هستيريا غرام عجيبة - تفاهة تامة، حد كونها مخدراً قوياً للشعوب عن قضاياها المهمة.
ولا شك أن هناك في الساحة الدينية من يروجون لخرافات ساذجة فيحظون بجمهور عريض حتى لو دمروا الدين، وفي ساحة السياسة هناك بلا شك من يسبون الحكومات فيحظون - بفعل عامل الدغدغة الساذجة للمظلوميات - بشعبية الملوك، حتى لو دمروا الدول والشعوب، وكانوا عوامل فنائها، وفي عالم الكتاب والثقافة، فهناك من يكتبون وهناك من يقرأون كتب الجن والأبراج ومثلث برمودا والأطباق الطائرة... الخ، باعتبار القراءة مصدراً مهماً للثقافة والمعرفة والوعي، حتى لو دمر ذلك العقول، وسنجد بلا شك كتباً تافهة كثيرة في أرفف الأكثر مبيعاً والأكثر قراءة.
وفي المقابل فستجد الجدية والثقافة الحقيقية كمثال هنا فقط، لا تحظى بما تحظى به التفاهة من إهتمام، كما ستجد رجل الدين الحقيقي الراقي والمتنور، لا يحظى بما يحظى به مروج خرافات بارع، وهذا سيدفعنا قسراً للتساؤل، هل نحن البشر تافهون حقاً؟!!! أم ماذا؟!!!.
ودعوني أعرج بكم قليلاً على برنامج التواصل الإجتماعي «الوتس أب»، وأكاد أجزم أن من المستحيل أن أجد واحداً منكم ليست لديه قروبات مبتلاة بتفاهات التهريج وتهكم بعض الأعضاء على البعض الآخر، أو بعبارة أخرى «الطقطقة على الآخرين» أو السخرية منهم بغرض التسلية بسبب وبلا سبب، وهذه السخافات «والتفاهة» نفسها، التي تكشف عن حجم التدني في الوعي والأخلاق والمعرفة، ستجدها منتشرة أيضاً في الديوانيات والملتقيات الشعبية ولها جمهورها وعصاباتها وعصبها، والتي تمارس عملها أحياناً بشكل منظم فيه ما فيه من تبادل أدوار مريض، وكأن ذلك الممارس، ضرورة من ضرورات الحياة، أو أقلاً مستحباً من مستحبات الدين، قد ألبست تجملاً لباس المزح.
فما سر هذه الظواهر السلبية من التفاهة مجتمعة يا ترى؟!.
هنا يمكن في عجالة من أمرنا محاولة لملمة بعض العوامل، بالقول أن تفضيل الجمهور ليس في حقيقته مرتبطاً بالمنافع الحقيقية التي تدركها النخب ثقافية كانت أم سياسية أم إقتصادية... الخ، بل مرتبطة بعوامل أخرى قوية كحجم اللذة والنشوة الآنية واللحظية التي يشعر بها الجمهور أو الممارسون في كيمياء دمائهم المتسممة بهذه السموم، سواءً كانت لذات مادية أو معنوية، والتي يتم الحصول الفوري عليها من خلال الممارسة أو المتابعة، كالتلذذ بأفعال ومشاهد الأكشن والتهريج، وهو نوع من الكسب الغريزي للذات.
كما أن تفضيل الجمهور بصورة ما مرتبط بالحاجات الإنسانية المعروفة من خلال هرم ماسلو وعلى رأسها «الحاجة لتحقيق الذات»، وإذا كان تحقيق الذات صعباً مريراً عبر بعض الطرق كإجراء بحوث فكرية وعلمية ومعرفية معمقة، أو الإنهماك في مشروع تجاري أو إجتماعي أو سياسي جاد ومبني على المعرفة والإجتهاد الذهني والبدني، فإن هناك دائماً طرقاً بديلة لتحقيق الذات بشكل تافه وسلبي رخيص ويسير، كأن تلقي بنفسك من فوق ناطحة سحاب ساعة جنون، أو أن تقود سيارة بتهور، أو أن تصور نفسك وأنت عارٍ، أو وأنت تأكل نوعاً غريباً من الديدان، أو أن تلبس لباس الجنس الآخر ثم تنشر ذلك لجمهورك على «شبكات السوشل ميديا» ليبهر جمهورك من غرابة هذا السلوك، وينشغل بك وبما تقوم به، وتكون «علكة لذته» في المجالس وبرامج التواصل، وهذا هو نفس المهرب الذي يمارسه الطالب المخفق في الدراسة، عندما يلجأ للطرق البديلة داخل الفصول الدراسية، حين يتعذر عليه تحقيق الذات عبر المذاكرة المضنية - التي يشغف بها ويلتذ بها، المجتهد لا البليد -، فيصدر صوتاً أو يلقي كرسيه، فتتحقق له لذة الشعور بالإنجاز ورفعة الذات.
ويمكننا أيضاً القول أن الكثير من البشر لديهم من المعاناة والآلام ما يكفيهم البحث عن المزيد منها، حتى لو كان ذلك مما يحقق مستقبلاً بعد الجهد والجهاد والإجتهاد، ألذ الآمال، ولو حقق لاحقاً أفضل اللذات والأحلام، لذا ستجد الناس فارين من الجدية، وهاربين من سبل إستثمار الوقت المضنية، التي لن تحقق اللذات إلا بعد جهدٍ جهيد، وهنا ستكون التفاهة نوعاً من مسكنات الألم الفورية، سواء أدركنا حقيقة سلوكياتنا البشرية، أم غابت الحقيقة عنا.
وعلى هذا المنوال يمكن التأمل في أسباب التفاهة ومعرفتها وفهمها، لنكشف أسبابها وبواعثها العديدة، ومن هنا يمكن الإنطلاق نحو التفكير الجاد في توظيفها بشكل مثمر في المصالح الحقيقية، وفيما يورط من يبحث عن التفاهة في سلوك طريق آخر غايته الرقي والوعي والمنجزات الحقيقية واللذائذ الدائمة لا الآنية، فالبشر في حقيقتهم كالآلات الرقمية المبرمجة، التي يمكن كشف برامجها، ومن ثم التعامل مع نظمها وبرمجتها وفق ما تقتضيه متطلبات المصلحة والضرورة والأهداف المطلوبة