رقية آل عبيدان: مثالُ حجِّ المُلهِمينَ والمُلهَمين
إلى الملهمة في دنياها وبرزخها هذا القليل من كثير ما تستحق
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي قضى. والحمد لله حتى يرضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
أما عن رقيةَ وهذا الشرفُ المبين، والتي أسفرَ وضعُها عن رحيلها، وحُمِل نعشُها نهارَ جُمُعة، وقتَ السماتِ والندبة، فقد نالت من بابِ المرادِ مرادَها. وإنا ولو نحزنُ لفقدِها نُسَرُّ بفوزها، «وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيم». فعظمَ اللهُ الأجرَ لصاحبِ الأمر. وعظم اللهُ أجرَ المثكولين. وعظم اللهُ أجرَ المُبلِّغين. وعظم اللهُ أجرَ خَدَمةِ الحُسَينِ وجميعِ المؤمنين.
عامٌ ونيفٌ جمعنا بهذهِ المبلِّغةِ الملهمة. عامٌ ونيفٌ فترة يسيرة، لكنها سابرة وغنية وعميقة بعمقِ التحولِ الذي ينشده السائرونَ في سلوكِهم إلى الله. عامٌ ونيفٌ مرَّت سريعًا بمقاييسِ الزمن، لكنها بمقاييسِ التبليغِ كالدهورِ المتعاقبةِ ناحيةِ العملِ الرسالي والتكاملِ المعرفي والبحثِ في خلقِ الله عن ذاتِهِ الحقة. عامٌ ونيفٌ والآثارُ طيبةٌ، كثيرةٌ، مستمرةٌ ومتكاثرة. فطوبى لنا هذه الشجرة.
مثلُهَا ينبغي أن نقفَ عندَه طويلا. نتأملُ مبانيهِ ومعانيهِ، نتدارسُهُ، نمارسُهُ، نُنتِجُ على إثرهِ وَنسْهِمُ فيهِ. وفي رقيةَ تحديدا، مَبْنَيَيْن، جميعُنَا يعرِفُهُما: داخِلِي رُوحِي، وَخَارجي مِصْدَاقِي. فقد بَنَتْ «أمَّ أبيها» في ذاتِها أولا، حتى تمثَّلَتْ لها خارجا.
كأنَّ أفقا مضيئا من الداخلِ أبى إلا أنْ يخرجَ إلينا فيضيءُ واقعَنا.
فأيُّ أفقٍ هيَ رقيةُ وأيُّ امتداد؟! أيةُ مرشدةٍ هيَ، أيُّ خيرٍ وجدناهُ، أيُّ زاد؟ قلةٌ هم المؤمنونَ الذينَ يفتحونَ عليكَ بإيمانهِم بابا إلى اللهِ من غيرِ ميعاد. قلةٌ هم المؤمنونَ الذينَ يفتحونَ عليكَ بإيمانهم بابا يكرِّسُكَ للجهاد، قلةٌ هم المؤمنونَ الذينَ يفتحونَ عليكَ بإيمانهم بابا إلى آلاءِ الله، وأولياءِ الله والصالحينَ من العباد.
قلةٌ هم المؤمنونَ الذينَ كما يحبُّ اللهُ ويرضى، فتَتَلَبَّسُهُم، وتَتَلَّهَفُ عليهم، طمعا أن تصبحَ مثلَهُم، «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد». فشكرا «رقيتنا» هِدايتك، وشكرا هَداياك، وسَلامُنا لمن قَرَاك إمَامُنا الجواد.
فالسلامُ عليكَ يا حجَّةَ اللهِ وابنَ حجَّتِهِ وعلى الأرواحِ التي حلَّتْ بفنائِكَ، وخيرُ ما نهدِيهَا أعلى الصلوات.
وماذا بعدُ في رقيةَ تي؟!
عرفناها مثالا للمُتعلِّم على سبيلِ نجاة. تأخذُكَ روحُها إلى اللهِ من غيرِ حديث، تحبِّبُ الناسَ فيه، تجعلُكَ بسلوكِهَا تُرَاوِدُ نفسَكَ عنْ عِلمِها ومحاسنِها، مَن وراؤُهَا، مَن معلمُوهَا، ماذا يحيطُ بها، مَن تكَفَّلَ أمرَهَا ورَعَاهَا وسَقَاهَا وأَغدَقَ عليها حتى جعلها تفيضُ باللطائفِ والوسائلِ والسُّبُلِ والحَيْثِيَّات.
كنَّا نَلمَسُ في ممشاها وقارَ الذاكرين، وفي قربِها هيبةَ العارفين، وفي كلامِها أَمَاراتِ المنتظِرِين. تقولُ الأشياءَ بمنطقِ الفَرَجِ القريب، تعملُ الأشياءَ بنظريةِ الظهورِ وسُلوكِ التعجيل. لا تخلو إشَارَاتُها مِن سُبْحَانِيَّةِ الخالقِ وتَلَمُّسِ الآياتِ واستنطاقِ العِبَرِ وتقريرِ السلوك. كما لا يفوتُها اليُسْرُ في الدين والمعاملةُ بِلِين، والجمعُ بينَ نَصيبِها من الدنيا ومبتغاها من التمسكِ بحبلِ اللهِ المتين.
«رقية» من أعاظِمِ النُّسْوَةِ وسَيِّدَاتِ العِلمِ والتقوى. امرأةٌ على قَدْرٍ من العفة، وقَدْرٍ من العلم، وقَدْرٍ من العمل، تفتحُ عليكَ الأسئلة: ماذا عن «أمِّ أبيها» دونَها؟ ماذا عن الكوادرِ بعدَها؟ ما هيَ المرحلةُ المقبلة؟
أينَ التي مَهَّدَتْ فأسَّسَت؟ أينَ التي أشْرَفَتْ فشَارَفَتْ وأنبَتَتْ فأزهَرَتْ؟ ولما تَدلَّتْ الثمارُ وتَجَهَّزَ الحاصدونَ، صامَتْ عن ذلك وَعَرَجَت. كأنما تخَلَّتْ، فتَحَلَّتْ وَتَجَلَّتْ. كأنَّ اللهَ أرادَ لها أنْ تشهدَ مشاهِدَ افتتاحِ حُلْمِهَا من ساحةِ قُدْسِهِ لا سَاحةٍ في أرضِه، بعينِ البصيرةِ لا البَصَر، بينَ زُمرِ الملائكةِ والرسُلِ والنبيينَ والصدِّيقِين والشهداءَ والصَّالِحينَ وَحَسُنَ أولئكِ رَفِيقا.
أيُّ تدبيرٍ إلهيٍّ هذا وأيُّ قضاءٍ وقدر؟! كم هذا آهلٌ بالعنايةِ والاصطفاء؟ وكم هيَ فقيدتُنا آهلةٌ بالخيرِ مسارعةٌ إليه، وآهلةٌ بالرحمةِ ناشرةٌ لها، وآهلةٌ بالخدمةِ عاملةٌ بها، وآهلةٌ بالتمهيدِ مندكةٌ فيه.
فجاءَ فقدُها على نحو «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّي لِتَرْضَى»، كاشفا عن مدى توفرِ الرِّضَا والإيمانِ بأُولِي النُّهَى ومِن ثمَّ تحصيلِ المنتهى. ففازتْ فوزا عظيما. هكذا، حجَّتْ «رقيتنا» إلى الحُسَينِ وربِّ الحُسَينِ، على نَسَقٍ مختلف، بعيدا عن طرقِ الأرض، من طرقِ السماء، بتجارةٍ رابحةٍ مع الله، مِن بابِ المراد، عبرَ المهْدَوِيَّةِ وأمَّ أبيها وهذا الجَنِين.
يا «رقية» أنتِ لا ترحلين.. لا ترحلين، فهذا خلودٌ وهذي الجموعُ شواهدُ.
فبعضُ مواعيدِ الموتِ هيَ مواعيدٌ مع النجاحات، مواعيدٌ معَ القُطوفِ الدانيةِ والآلاءِ الربانيةِ والفُيُوضاتِ. مواعيدٌ معَ النِّعَمِ والجزاءِ الأوفى ونورانِيَّةِ الذات، مواعيدٌ معَ محمَّدٍ وأوصيائهِ والفاطِمِيَّات «وَبَشِّرِ الصَّابِرِين. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوْا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلِيهِ رَاجِعُون. أُوْلَئِكَ عَلَيْهُمْ صَلَوَاتٌ مِنْ ربِّهِم وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُم المُهْتَدُون».
فسُبحانَ الذي جعلَ فقْدَكِ مَوْرِدًا لصلاتِهِ، ومُسْتَنْزَلًا لِرَحَمَاتِهِ ومَظهَرًا لبَرَكَاتِهِ. والحمدُ للهِ الذي رزقنا مَشْهَدَكِ ومَجْلِسَكِ وعُلُومَكِ وأعْمَالَكِ وبِرَّكِ وخِدْمَتَكِ. والسَّلامُ عَلَيكِ بِما صَبَرْتِ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار.
💭🌿 ألقيت عصر الأربعاء، 5 ذي الحجة 1437، في المخيم المركزي لعزاء الفقيدة الشهيدة: رقية سعيد آل عبيدان.