ارتعاش الروح بسكناها
منذ صغره كان يمتلئ بطهر الروح، وابتسامته التي تشرق في محياه، يمنح المكان والزمان طراوة الأنس، بارًا بوالديه، متفوقًا في دراسته، السنون تبحر في ذاته اشتعالات أمل طموح.
ذات مساء كانت ترافقه أسرته تحتفل معه بمناسبة تخرجه من جامعة البترول، التي توج فيها بالمركز الأول مع مرتبة الشرف، ليكون بعدها مهندسًا في شركة أرامكو السعودية، همس في سمع أخيه بعد انتهاء الحفل، بأنه يهفو شوقًا لأداء فريضة الحج، مسرعة خطاه في احتضان ذوبان الروح في القداسة، انعتاقها، تجليها عناق عشق لا يزيده العناق إلا رغبة في عناق آخر.
انتهى من جميع الإجراءات، ليكون ضمن قافلة الحجاج، فجأة وبينما كان يمارس الرياضة سقط في حفرة صغيرة، فانكسرت قدمه، مما شكل عائقًا يمنعه من العشق، منح أخاه تذكرة الحج، وقلبه يعتصر ألمًا وحسرة، تناثرت دمعاته بين خديه، يحملها بين عتبات قلبه - كان يتألم بوجع لا يرى - ولكنه يشعر به أي عاشق أخذ منه العشق مداه ورؤاه.
وقف مودعًا أخاه، وعيناه تحدقان ولا تحدق، كأنها تبصر بحثًا عن غيمة زرقاء في عمق سماء الصحراء، يتأمل قطرات المطر تتساقط بين يديه، لا مطر سوى لظى المسافات، ألهبه الاشتياق، يقضي وقتًا طويلاً أمام شاشة « التلفاز »، يتناغم مع الحجاج في مشاعرهم، طوافهم حول البيت العتيق - الكعبة المشرفة - خطواته امتزاج خطواتهم في السعي بين الصفا والمروة، يلبي في تلبياتهم، يجري دموعه عبر دمعاتهم في « عرفات »، يرخي جبينه بجانب جبينهم في « منى ».
و تحقق الحلم، في العام الذي يليه، كان ضمن قافلة الحجاج، لم تكن سعادته كأي سعد، لم تكن اللحظات كأي لحظة، كان لا يشعر بجسده، لا يتقن لغة الحس، الروح كانت بوصلته التي أطلق لها العنان، لتكون هي ربان السفين، لا يصغي إلا إلى ارتعاش الروح، سعيًا لسكناها.
احمرت وجنتاه، صمته خشوع، الآن يلامس جسده إحرام ما مضى من سنينه العجاف في النشوة الأولى، متسربلاً بكنه الفناء، لسانه لا يهدأ من التسبيح والتهليل، حمدًا يأخذه سراعًا، لنسج الصورة متكاملة، يعذبه النسج، أمنياته أرادها شغوفًا واقعًا، يحدث ذاته، يلهم ما تبقى من الحس، أن اللقاء بالعشق آنف اقترابًا.
ما أقسى خطاه، وهي مثقلة عاشقة، يبثها الروح، لتمضي، ها قد اقترب، رمق الجزء العلوي من البيت العتيق، اقترب أكثر، الآن تجمدت خطاه، تعطلت لغة الكلام، توقفت عقارب الساعة، الأصوات، الإزدحام خارج جغرافية حواسه، انحدرت من مقلتية دمعة ساخنة، تركها تمشي الهنيئة إلى حيث تريد، منتشيًا بذوبانها، لعل اتقاد الروح يهدأ.
أدى مشاعر الحج وفي كل مشعر يتجرد من خيوط الدنيا، مبتعدًا عن مغرياتها، ترفها، متعلقًا بالطهارة، الملكوت، النشوة الإيمانية، ليغتسل بماء زمزم، كاغتسال الجنين في بطن أمه، مستقبلاً الحياة، وأثناء عودته إلى مدينته - القطيف - أمسك بيدي والدته، التي كانت معه، مقبلاً يديها وجبينها، وسألها: هل أنت راضية على ابنك، يا أماه، احتضنته، مجيبة: وكل الرضا، لقد أخذتني معك لحج بيت الله، وهل بعد هذا البر بر، يا ولدي، الآن هو يبكي.