تلك حدود الله
كثير من مشاكلنا الأسرية اليوم ترجع إلى أحد عاملين: معرفي، يتمثل في الجهل بفقه الأسرة وأحكامها الشرعية التي هي حدود الله في هذا المجال؛ وتطبيقي، يتمثل في الإعراض عن الأحكام بعد معرفتها، واختيار البدائل الأخرى التي لا تمت للشرع بصلة. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا.
فقد يجهل كل من الزوجين حقه المشروع من الآخر، وواجبه تجاهه، أو يصر على عدم الالتزام به، وعندها تقع كثير من الخلافات بينهما نتيجة ضياع أو تضييع حدود الحقوق المتبادلة، واختراع حدود متغيرة تخضع للأمزجة والتقديرات الشخصية والتوقعات المتباينة.
وقد يعتدي أحدهم على زوجته بالضرب مثلا بحجة تقصيرها في بعض ما يراه هو من واجبات لم ينص عليها الشرع. أو قد ترهق الزوجة زوجها بما يتجاوز وسعه من كماليات، وتخيره بين تلبية طلباتها أو تطليقها والعودة إلى بيت أهلها.
صحيح أنه يحسن من كل منهما أن يفعل للآخر ما يزيد على الواجب بحسب وسعه، تحصيلا للألفة والمحبة بينهما، وتأكيدا على المعاشرة بالمعروف، إلا أن ما يحدث أحيانا هو وجود خلل فاحش في ميزان التبادل الحقوقي، إذا صح التعبير، مما يتسبب في إحساس أحد الطرفين بعدم قدرته على إكمال المشوار.
وقد يُضيق أحدهم على زوجته وينتهك حقوقها المشروعة من أجل أن تطلب الفكاك منه بالخُلع، طمعا في مالها واستغلالا لضعفها، مما يمثل تعديا على حدود الله. فقد ورد عن النبي أنه قال: ومن أضر بامرأة حتى تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار لأن الله يغضب للمرأة كما يغضب لليتيم.
وقد يظن بعضهم بأن له بمقتضى قوامته على زوجته أن يشاركها في أموالها، أو يطلب منها الإنفاق على أولادها ما دامت ذات دخل مادي. وقد يعلم بأنه لا يحق له ذلك، إلا أنه يتفنن في الاستيلاء على مالها دون إذنها.
وقد يجهل الوالد حدود ولايته على أبنائه، فيظن أن لديه سلطة مطلقة في تأديبهم بأي وسيلة كانت، ولو بالضرب المبرح أو المدمي. وقد يتجاوز الولد حدوده في علاقته بوالديه بنظرة غير حانية أو كلمة نابية أو فعل لا يناسب الإحسان إليهما، متأثرا بما يشاهده في بعض المسلسلات.
وقد، وقد، وقد....، فالأمثلة لا يستوعبها هذا المقال. لكن مثالا هاما ينبغي أن يذكر، وهو التأخر في توزيع التركة بين الورثة، لما في ذلك من عدم التزام بحدود الله، وحبس لحقوق الآخرين، ولما يسببه من عداوات ومشاحنات داخل الأسرة الواحدة، فتتفكك بعد اندماجها، وتتصارع بعد انسجامها.
إن الآيات التي حذرت بلغة شديدة من المساس بحدود الله والاقتراب منها لا يصح أن نمر بها مرورا عابرا، بل ينبغي التوقف عندها وتأملها وتذكير النفس بها عند كل موقف، والسعي لمعرفة حدود الله والالتزام بها. يقول تعالى: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا» ويقول: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ويقول: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» ويقول: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ».
أخيرا لا ننكر وجود أسباب أخرى للمشاكل الأسرية من نفسية واجتماعية واقتصادية وتربوية وغيرها، وهو ما يستدعي علاج تلك المشاكل بالأساليب الملائمة بعد تمام تشخيص أسبابها، لكنها ليست موضوع حديثنا هنا.