الجمال المسجون

زكية العبكري

فتحت ســــارة باب الغرفة المغلقة , والتي لم تكن تعلـــم ما بداخلها لأنهُ كان محــرم عليها الصعود إلى الدور الثاني .

وببراءة الطفولة وعبثها , قادت أقدام سارة إلى الدور الثاني وتمتد يديها المرتجفة إلى مقبض الباب , وتصرخ بهستريا سبحان الخالق المبدع , ويعلو صوت سارة , ويصم كل الآذان الموجودة في المنزل , سارت سارة بخطوات متأرجحة , وأصوات غير مفهومة , وأستار الدموع المنهمرة حجبت الطريق على سارة لتسقط على الأرض جثة ً لا حراك فيها .

سمعت الأم المنهمكة في أعمال المسكن , المحلقة نحو المجهول بتفكيرها الفائض من الهم , وقلبها النازف من الحزن .

هرولت أم سارة نحو مصدر الصوت , وتفتح عينيها  بعد أن كفكفت دموعها بكمها , رأت أبنتها ملاقاة على الأرض , حاولت أم سارة أعادة أبنتها إلى أرض الواقع , ولكن عقل وقلب ســـارة خــدرهُ الجمـال المسجون في الغرفة , والتي لم يكن أحد يستطيع أن يرى ذلك النور الرائع بعد الله سبحانه وتعالى إلا الأم والأب .

رفعت الأم يديها لتحمل أبنتها , وتنهار كل قواها , لم يتحمل قلبها الرقيق تحمل جراحات جديدة , ترفع بصرها إلى الخالق الودود , وتناجي العليم الخبير , وتمتد يد الزوج والأب العطوف ويمسح دمعتها , حمل الأب ابنته وضمها إلى صدره , وعلى السرير الأبيض وضع الأب ابنته .

سأل الطبيب عن سبب انهيار براءة الطفولة ؟

لم يكن للوالدين الإجابة المقنعة والشافية لطبيب .

فحص الطبيب جسم سارة الصغير , وجند كل علمه وخبراته العملية لفـك الشـفرات والرموز , ولم يحصل عقله العلمي المتطور على نتيجة تمسح دمعت الوالدين .

ضم الأب ابنته إلى صدره , وقبل مابين عينيها , وشخص ببصره إلى الوهاب , وبلسانه الإيماني طلب من الرحيم الرحمة لسارة , وألا يحرمه من هذه النعمة التي أتحفهُ بها .

نظر الزوج إلى زوجته , وقرأ تمزق قلبها , وشاهد صور أفكارها المتوهجة , وهمس الزوج في أذن زوجته , واستأذنا الطبيب في المغادرة لساعة , سارت أم سارة بجسدها وقلبها أودعته ابنتها ليحرسها ويرعها , بعد أن أعادت قلبها من المسكن لأنه كان يحرس الجمال المسجون في الغرفة .

وبهدوء الأب همس بكلماته , وتحاور مع أم سارة في غرفة المعيشة , عن الأحداث والسبب الذي أدى إلى فقد الوعي عند سارة .

اختفت جميع ملامح أم سارة وذاب قلبها , وتمزق جسدها , لم يقبل عقلها أحزان ولا آهات تضاف إلى جراحاتها .

قالت أم سارة : قل أي شيء عن ابنتي سارة , ولا تقل طفئت شمعة حياتها .

صرخت جراحات أم سارة يكفي جميلة وما بها , أنفاسها بين الأحياء جسد حي وروح مقبورة .

أدرك والد سارة بنفسه المهمومة وقلبه المجروح , بأنه مازال يتمتع بجسده القوي الصامت أمام عواصف البلاء , رغم تآكل جسده من الداخل , وعليه أن يستمر في هذا التماسك حتى لا تتمزق أسرته الصغيرة .

أحتوى الزوج زوجته , وأطلق العنان لقلبه المحزون ونفسه المهمومة تتناقش مع قلب أم سارة المحطم لما حدث لابنتها جميلة وما يحدث الآن لابنتها سارة .

قال الأب : تجملي بالصبر وتزودي بالتقوة وتزيني بالحلم , فهذه إرادة الخالق لا إرادة المخلوق .

قاطعت أم سارة زوجها وقالت : يعتصر قلبي وتتقطع كبدي وتتكسر أضلاع صدري كلما نظرت عيني إلى جميلة , وتزايدت عليَّ المحن وتكسر رياح الأحزان بقية عقلي في فلذة كبدي نوري الذي أبصر به إلى الحياة ابنتي سارة .

قال الزوج الحنون : ماحدث لسارة شدة وأن شاء الله تزول , وتقوي من عقيدتنا , أما جميلة ......

وانهارت الأم عند ذكر اسم جميلة , أحست كأن أركان الغرفة تنطبق على أنفاسها لتخمدها إلى الأبد .

وحضور أحساس الأب المدرك لكل مايدور حوله أسند أم سارة إلى صدره قبل أن تقع على الأرض .

تاهت أم سارة في أفكارها , وبعثرت خواطرها ,  وتذكرت أيام جميلة وكل ماجرى لها .

وكيف امتدت يد الحقد والحسد ؟

وكيف كانت فراشة تحلق من زهرة إلى زهرة ؟

وكيف تنثر رحيق الأزهار في زوايا المسكن ؟

وكيف تبعثر لمساتها الإبداعية في كل حائط ؟

تنهدت أم سارة ولمعت دموعها , وصرخت جميلة ... جميلة ...

أين أنتِ ياجميلة ؟

ياجميلة الخَلق والخُلق ؟

يا من تجلى فيها جمال الخالق في محياها ؟

أجابتها أحزانها وساعدتها آهاتها وسجلتها دموعها على أخاديدها تحلل قلبها .

جميلة أشرقت لها الدنيا بنورها سبحان الخالق الوهاب .

 ولكن وتنهدت آهات ..

ولكن الحقد والحسد , والغل المتغلغل في النفوس الضعيفة , حولها إلى ذئاب بشرية , نهشت الجمال , وكسرت الروح الشفافة التي تمتعت بها جميلة , وأفقدت جميلة عقلها المشرق .

تبسم الأب في وجه زوجته , ويرسم البسمة على محياه , ويخفي أنين قلبه بين ضلوعه .

و كانت دموعه تحرق قلبه , وأحزانه تقطع أوردته , ونفصل الأب عن العالم , وقرأ سطور ابنته جميلة .

جمال الخالق المتجلي في ابنته , وعبث يد الشيطان , وذئاب البشر المستعرة قلوبها بالحقد والحسد , شوه الجمال , وهشم الملاك الصغير الطاهر , لتحتفظ باسمها بين الأحياء , وتدفن كل المعاني وصورها الجميلة بين عقلها المسكوب بأيدي الذئاب البشرية .

رفع الأب بصره إلى المعبود وناجى ربه العليم , يارب لم أترك باب إلا وطرقته , ولم أجد طريق فيه نور من الأمل لابنتي جميلة إلا وسلكته , وأن حُف بالصعاب والعثرات , وتنهدا وفاضت عيناهُ بالدموع  ولهج لسانه بذكر الله سبحانه وتعالى ونادى يارب ... يارب ... يارب ...

وعلا صوت الهاتف ليقطع عليه لذة المناجاة مع خالقه .

وبشوق ولهفة ممزوجة بحزن قال : نعم أنا والدُ سارة .

قال الطرف الآخر: أنا طبيب سارة .

قال الأب : ماذا تقول ابنتي سارة .

سقطت سماعة الهاتف على الأرض كما سقط والدُ سارة .

أما والدة سارة نظرت إلى زوجها ممدد على الأرض , لتصمت كل حواسها