الزهراء شهيدةٌ بقامة الإمامة

 

 

 

إن المتتبع للتاريخ الإسلامي يستوقفه حدثين هامين تجلى فيهما بذل النفس لأجل المبدأ والذي عكس الأول منهما حالة التغيير التي زرعها الإسلام وهو لم يزل في بداية بزوغه وإشراقه, فبعد أن صدع النبي محمد بنبوته بعد سنوات الإعداد الثلاث وأخذ يدعو الناس علانيةً للإسلام كانت ردة فعل قريش عنيفة، حيث أن أغلب من تَبِع الرسول خلال سنوات نبوته الثلاث الأولى هم من العبيد والإماء فقد كان لهم نصيب الأسد من بطش وتعذيب أسيادهم، وكان من بين من عُذبوا آل ياسر، عمار ووالده ياسر ووالدته سمية وقد أدى ذلك إلى أن تسقط سمية شهيدة صابرة على يديّ مُعذبها ومن بعدها كان زوجها ياسر (رضوان الله عليهما).

ورغم ما لحق بهما من تعذيب وقتل لم نجد تراجعاً من المسلمين الأوائل بل ازداد عددهم، وكان قول النبي لآل ياسر بشارة تطلَّع إليها كل المؤمنين المضطهدين والمعذبين حين قال لهما قبل استشهادهما: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).

كانت سمية هي أول شهيدة في الإسلام لأجل إظهار مصداقية نبوة الرسول الأكرم، وقد حفظ لها التاريخ ذلك وكان الأمر جلياً وواضحاً، حيث أن من قتلها أحد مشركي مكة، لذا لم يُنكر أو يناقش في هذا الأمر أي من المسلمين وعُدّ أمراً متفق عليه .

ولكن ..هناك وقفة مختلفة مع شهيدة أخرى يتم التعمية من قبل بعض المسلمين على شهادتها، لأن الاعتراف بأنها شهيدة يترتب عليه فضح أُُناس يُراد لهم أن يتبوؤا المنزلة المتقدمة في الإسلام وأن يُضحوا هم الممثلين والمجسدين له، فهم من الداخل الإسلامي، وهنا كان اختيارها للشهادة.

فالعدو الخارجي جلي وواضح، أما الداخلي فهو خفي ومستتر إلا إذا تم فضحه وتعريته عبر أُناس لهم المنزلة التي لتلك الشهيدة وعبر الطرق التي اتبعتها بحنكة وحكمة.

تلك الشهيدة هي الزهراء فاطمة فكونها ابنة النبي الأكرم وكونها سيدة نساء العالمين، بل سيدة الصفوة من النساء أمثال مريم ابنة عمران وآسيا زوجة فرعون وخديجة الكبرى – سلام الله عليهم – وهن من شهد لهن النبي بأنهن من كملن من نساء العالمين، فهذا يعني أنها من تتطلع الأعين لها وللموقف الذي ستتخذه ومع من ستكون حين يجري حادث جلل، ولم يكن هنالك أعظم من حادثة انقلاب السقيفة بعد رحيل النبي المصطفى عن الدنيا.

إضافة لذلك كانت أحاديث النبي عن ابنته الزهراء لم تزل ماثلة في الأذهان، ولم تعبث بها الدعاية المضادة لآل البيت من قبل أعداءهم، ولم يتم التعتيم عليها، أو لا أقل لم يتم تهميشها وتأويلها بما يحولها إلا مجرد فضائل تعدد لأهل بيت النبوة في بطون الكتب والصحاح، دون أن يكون لها تجسيد وحضور في الواقع الإسلامي.

ومن تلك الأحاديث قول النبي : ( إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها )، وقوله: (من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ),من ذلك دخولها مع زوجها عليٌ أمير المؤمنين وابنيها الحسنين في (حديث حربكم حربي وسلمكم سلمي) أو (من حاربكم فقد حاربني) وسواها الكثير مما يصب في ذات المعنى.
 
هنا التفاتة مهمة.. فالنبي متصل بالله ويعلم كل ما سيجري على أهل بيته، لذا نرى أن أحاديثه التي تبين فضلهم أو تشيد بمنزلتهم في الإسلام وعند الله تعالى تتناسب بشكل دقيق وملفت لما سيجري عليهم، لإيضاح أن من أوقع بهم الأذى هو من أساء، إليهم وللفت نظر المسلمين على مر العصور أن لا تنظروا لمن ظلمهم وتعدى عليهم وتسبب في قتلهم، بل انظروا لما رُوي عني في حقهم، كي تعرفوا الحق مع أي الفريقين ولتتضح أمامكم الحقيقة، حتى لا تضل بكم الدروب فتبتعدوا عن الصراط المستقيم، عبر ابتعادكم عن الثقل الثاني بعد القرآن الكريم.

ومن ذلك أحاديث النبي عن ابنته الزهراء البتول، فإذا ما طبقنا تلك الأحاديث على ما جرى مع الزهراء بعد شهادة النبي الأكرم, نجد أنه حين تم غصب الخلافة من الخليفة الشرعي أمير المؤمنين – عليه السلام – نجد أن الانقلابيين عمدوا إلى الزعم بأنهم الخلفاء الشرعيين, فيما وقف الإمام علي مع الثلة القليلة المؤمنة التي بقيت على عهدها وبيعتها في بيعة الغدير الممتثلة لأوامر الله ورسوله، رافضين لذلك الانقلاب على الأمر الإلهي.

هنا كان لموقف الزهراء حضور خاص، فهي لو وقفت مع أصحاب السقيفة لحُمِلت على الأعناق، ولكنها حين اتخذت موقفاً مغايراً بوقوفها مع الإمام علي كونه الخليفة الشرعي بنص النبي الأكرم، ووفاءً للبيعة التي في عنقها تجاهه، لذلك اختلف التعاطي معها وبالأخص كونها تصدرت المعارضة، ووقفت بحزم وشدة، وأخذت تدور على بيوت المسلمين ليلاً مطالبةً إياهم بالوفاء لبيعتهم، وبالوقوف في وجه ذلك الانقلاب وإجهاضه لصالح الدين الذي بذلوا في سبيله أموالهم وأنفسهم لحفظه، ولاستمرارية نهج النبي بتسلم من نص عليه كونه المُعَيَّن من الله وهو الوحيد القادر على حفظ الدين من التحريف والتبديل، وعلى تطبيقه وإبقاءه شامخاً بكامل صفائه وحيويته وعظمته، إلى جانب لجوءها لبيان خطورة هذا الانقلاب عبر خطبها وعبر بكائها المستمر والمتواصل على والدها و-أيضاً- عبر رفضها لما ترتب على ذلك الغصب للخلافة.

 ففي البدء رفضت غصبهم للخلافة، ثم رفضت غصبهم لفدك، واحتجت عليهم في خطبتها، وأبطلت دعواهم في أمر الخلافة وكون النبي مستثنى من أن يرثه أبناءه وذويه بالقرآن والحجج العقلية، فما كان من غاصبي الخلافة إلا أن عملوا على ترهيبها وضربها وإجهاض جنينها ومحاولة قتلها، وذلك كله لإسكات صوتها و-أيضاً- لتوجيه رسالة للمسلمين في حال حاولوا أن ينضموا للإمام علي في مطالبته بحقه المغصوب، فإذا كانوا قد فعلوا ما فعلوه مع قامة شامخة من قامات الإسلام كفاطمة الزهراء فما هو مصير من هم دونها في المنزلة؟.

إن فاطمة الزهراء أرادت أن يكون موقفها يصب في إجلاء الحقيقة، وأن يبقى عبر الأيام والسنين تتناقله الأجيال، كي لا تضيع الحقيقة، ويخفيها تطاول الزمن، فأثبتت بذلك حقيقة اغتصاب الخلافة وما جرى عليها من ظلامات، عبر خطبها، وعبر بكائها ، وعبر تصريحها بأنها واجدة –أي غاضبة على الأول والثاني- وبرفضها حضورهما مراسيم جنازتها، وجاءت أجلى صور غضبها -عليها السلام- بوصيتها الخاصة بإخفاء قبرها عن عيون المنقلبين، وليكون دليلاً صارخاً لكل منكري الظلامة، وقضاة البراءة الزائفة الذين باعوا آخرتهم بصكوك البراءة من الجريمة التاريخية الكبرى في حق الإسلام وقائده وأهل بيته عليهم السلام.

ولم يكن (الزُهري) إلا أحد أولئك القضاة والمتاجرين بصكوك البراءة والغفران لشرذمة القوم، فهو من ادعى رضاها  على الأول والثاني قبل وفاتها، وهي دعوى باطلة تفرد بها، حيث رجع كل من قال بمقالته له دون غيره، ورغم هذا الادعاء الذي لم يُكتب له النجاح رغم الزعيق والنعيق ليلاً ونهاراً، إلا أن حقيقة رفض خلافتهما من الزهراء –عليها السلام- وعدم مبايعتهما ثابتة لدى المخالفين، ولم يتجرأ أحد من المتقدمين أو المتأخرين بادعاء خلاف ذلك.

إننا نكن مشاعر الحب والولاء للإمام علي  وأجزم بأنني لا أبالغ حين أقول بأن مشاعرنا تجاه هذا العظيم هو عشق لا حدود له، ونحن لم نعرفه كما عرفته الزهراء التي عرفت عظمته وعظيم مقامه عند الله سبحانه ورسوله، لذا كانت تضحيتها في سبيل إثبات حقه في الخلافة ليست لأجل كونه زوجها، بل لكونه الإمام الذي لا يمكن لأحد أن يصل إلى مقام الخلافة ويكون حرياً بها سواه فهو المؤتمن بعد رسول الله على الإسلام وعلى إكمال المسيرة، وتحقيق الوعد الإلهي، بأن يكون الإسلام هو الدين العالمي الذي سيدين به البشر في مشارق الأرض ومغاربها، لذا كانت الزهراء تُظهر الحزن والأسى اللذين لامثيل لهما بعد انقلاب السقيفة الذي أفضى إلى حرف المسيرة الإلهية عن طريقها الصحيح، فلم يكن منها إلا أن بذلت روحها الطاهرة لأجل الخلافة، فكانت قامة بشموخ الخلافة، وكل ما بُذل لأجل إعادة الحق الإلهي لصاحبه الشرعي من دماءٍ وتضحيات جسام إنما هو اقتفاءٌ لخطى الزهراء