ثنائية الروح والجسد

 

 

 

 

إن من أوثق الصلات العضوية لدى الإنسان الارتباط بين الروح والجسد، فمنذ أن تُبث الروح في الجسد وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه، تبدأ العلاقة العضوية الوثيقة بينهما، فهما لا ينفكان عن بعضهما إلا حين الوفاة، وحتى في لحظة الفراق تلك نجد أن الجسد يعاني آلاماً وأهوالاً لم يسبق أن شعر بها طيلة حياته، وهو ما يعبر عنها -بالمصطلح الديني- بـ(سكرات الموت) أو الاحتضار، وهي لحظات رهيبة لا يمكن لأحد أن يصفها بدقة مهما أبدع في الوصف نظراً لكون الجسد القالب الذي جسد قُدرات الروح الهائلة ومكنها من القيام بوظيفتها.

إن الروح بالنسبة للجسد بمثابة المُحرك والمُحفز لجميع وظائفه الحيوية وقدراته الإبداعية، وهي من تمده بالطاقة اللازمة كي يستطيع أن يُؤهل حواسه للقيام بجميع وظائفها، فالروح للجسد كالطاقة الكهربائية للأجهزة التي تعمل بتلك الطاقة وحين انفصال التيار الكهربائي نجد أن الأجهزة تُضحي غير قادرة على القيام بوظائفها، وكذا الأمر بالنسبة للجسد والروح، فما إن تخرج الروح من الجسد حتى يفقد القدرة على تفعيل جميع الوظائف الحيوية لأعضائه وحواسه والتي كانت قبلاً تعمل بشكل إرادي وغير إرادي متناسق ومتوافق مع بعضها البعض.

ومن هنا نرى أن هناك جانباً نستطيع أن نتحدث عنه وجوانب أخرى نتمكن من الإشارة إليها دون أن يكون لنا الإلمام التام بمعانيها وكنهها وماهيتها، نظراً لكون الروح هي من الأسرار الإلهية الغيبية التي لم يُطلع المولى -عز وجل- حتى خاتم أنبياءه -صلى الله عليه وآله وسلم- عليها، ومن ذلك قوله تعالى: (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي).

ويمكن القول: أن هناك مساحة محدودة في أمر الروح نستطيع أن نتحرك فيها وأن نشير إلى بعض معطياتها المتوافرة لدينا، فما هو معلوم لدى الإنسان أن للروح عناية خاصة بالجسد الذي كانت في قالبه لأعوام عدة، ففي حال الممات مثلاً لا تفترق الروح عن الجسد بالمطلق فهي ترافقه حتى يوارى الثرى، وتكون برفقته وهو ممدد على المغتسل بين ذويه وأحبته تستشعر لحظات الرهبة والانتقال من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، وتعايش لحظات فراقها عنه وفراقه عن أحبته.

وكذا الحال حين لا يوارى الجسد في مكان يليق به، حيث نرى أن هناك معطيات تدل على أن الروح تكون في حالة من عدم الاستقرار حتى يوارى الجسد في مكان ملائم، ومن ذلك ما جرى بين الجارين الذين جمعهما منزلين وأيضاً محلين تجاريين متجاورين فبقيا معاً في غدوهما ورواحهما حتى فُقد أحدهما وبقي الآخر في حالة من البحث والتحري حول جاره ورفيقه إلى أن لاحظ أنه يرى صديقه عند حافة (صرف صحي) وما إن يقترب حتى يختفي صديقه فقام بإبلاغ السلطات، وعند قيامهم بعمليات البحث في تلك المنطقة وجدُ جاره هناك ميتاً وما تجسد الروح على صورته إلا للتنبيه حول مكان وجوده لكي يُوارى بالشكل الذي يليق به.

إن للروح علاقة خاصة وحميمة بالبدن وما خروجها منه حين تعرضه لإصابات نعدها قاتلة في بعض الأماكن كالقلب أو الرقبة أو قطع الرأس لربما كان لمعرفة الروح بطبيعة الوظائف التي يقوم بها الجسد، فهو لن يكون مؤهلاً لأن يقوم بوظائفه بكفاءة وتميز وهو على تلك الحال عند قطع أجزاء مهمة وحيوية من أعضائه.

إننا حين زيارتنا للمقبرة وعلى الرغم من معرفتنا لما آل إليه جسد المتوفى المُزار، وما تخبرنا به الروايات من كون الروح تعود لصاحبها لحين انصراف ذويه أو زائريه عنه، وأنها تستشعر الوحشة حين ذهابهم عنه، لهو إشارة أن هناك نوع من المعرفة لدينا حول هذه العلاقة العضوية والحميمة بين الروح والجسد، وأننا حين نقوم بزيارته إنما نذهب لمن عرفناه قبل موته وهذا ما نلحظه في تعاملنا مع موتانا جميعاً، وإذا لم يلقَ الجسد ما يستحقه من احترام فإننا نشعر بذات الشعور لو لقي صاحبه أمراً يسيء إليه في حياته، فالثنائية تبقى في تعاطينا الواعي واللاواعي معه ولعلّ التأكيد على أن المُعطى الديني يُرسخ هذا المفهوم الذي يجلِّيه العقل هو من فاضل  القول.

إن للجسد والروح ثنائية خاصة منذ التقائهما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالبعث يوم القيامة يكون لهما معاً، والعذاب في نار جهنم والنعيم في جنات الخلد يكون –أيضاً- لهما معاً –ولهذا المعنى تفصيل في كتب العلماء المختصة بهذا الجانب– كما أن تأثير الروح على الجسد يتجاوز القدرة على الحركة والعطاء والتفكير بل يتعداها لحفظ الجسد من التلف والتفكك والتفسخ، فعطاء الروح للجسد غير محدود ولا يمكن حصره بجوانب دون أخرى لذا تُعد الروح هي من أكثر آيات الله -سبحانه وتعالى-  إعجازاً وإبداعاً، فهي من الغيبيات المُعجزة التي لها تأثير كبير ولا يمكن إنكاره على عالمنا، عالم الشهود.