من القى الذكرى الثالثة لرحيل الشيخ علي المرهون

عمة مواجهة لا عمة واجهة

 

 


على عتبة التاريخ يقف رجال استثنائيون  بصمت ليواجهوا التحديات في العمق والامتداد ليشكلوا هاجساً مؤرقا و حياً في نفوسنا و ممن كفنهم الخلود مثال التقوى و الورع الشيخ علي المرهون رضوان الله عليه.

يتميز الشيخ علي المرهون بين أقرانه و بالتحديد في فترة عصره الأولى بأنه رجل مواجهة لا رجل واجهة وذلك من خلال السلوك الذي انتهجه في حياته الخاصة منها والعامة سواء بين عمله على المستوى الفردي أو على مستوى المجتمع هذه العلاقة المرتبطة بهدف هي علاقة نشاط بغاية أو مايسميه الفلاسفة العلة الغائية .

 تمييزاَ عن العلة الفاعلية أطلق الشيخ علي المرهون دعوته ((له دعوة الحق)) و هو في بواكير عمره الشريف من مهجره العلمي بالنجف الأشراف في أواخر الخمسينيات الهجرية في رسالة صادعة بالحق نشرها في مجلة صوت الخليج البحرانية الغرض منها التوجيه والتغيير لبعث طاقات النمو والإبداع .

فلنقرأ نص الدعوة المباركة ولنتأمل فحواها ( له دعوة الحق )إليكم نص الخطاب.

إن عنوان مقالي هذا يلفت الأنظار من ذوي الأفكار الصافية والألباب السليمة ليفهموا ما ذلك الحق وما تلك الدعوة فأن كان ذلك الحق حقاًُ أتبعوه حيث قرءوا في كتاب الله الكريم أن الحق أحق أن يتبع فإليكم معشر الأخوان ما أقول فأعيروني اسماعكم لتعوا ما ألقيه عليكم بحضور قلوبكم فأن كانت دعوتي هذه حق فلا يسعكم التنصل عنها و وجب عليكم اتباعي فيها , و أن كانت باطلاً فعلي أجرامي وماتوفيقي إلا بالله عليه توكل وإليه أنيب .

 إن مجلس سيدي الوالد ليلة أمس في شأن أقامة مدرسة علمية تؤوي إليها طلبة العلم من أهل القطيف الصادر منه مساء امس الغابر قد حرك العواطف من الشباب الناهض فكأنما الهب الشيخ في أكبادهم ناراً من مجلسه ذاك فخرجوا متأوهين متلهفين يدعون الله في انتاج هذه الدعوة موجهين جل مقالهم نحوي كأنهم يرون أني صالح للنهوض بمثل هذه المكرمة وقابلاً لأن أكون من الرجال المؤسسين لأفعال الخير والصلاح , و أنىًّ لي والعجز بادٍ والقوة واهية والنفوذ نفوذ فدفعتهم بوعدي إياهم ببيان الحال لدى عامة الناس و ها أنا قد وفيت بحسب قدرتي .

ثم لا يخفى عليكم و كلكم عارفون أن بلادكم القطيف منقطعة عن كل خير , نائية عن البلدان التي هي محط للمعارف وشتى العلوم , كالنجف و كربلاء والكاظمية و سامراء في العراق وقم وشيراز واصفهان وطهران و خراسان في إيران , وفي الأفغان وبربر وتبت والهند إلى غير ذلك من الأمصار العربية والعجمية من المدارس ما لا يخفى و في مصر الجامع الأزهر وما أدراك ما الجامع فقد مضى عليه دور كبير ضم بين زواياه اثنا عشر الف  تلميذ وما زال وحتى الآن يدور مع الدهر حيث ما دار يبحث عن المعارف العلمية والأحكام الدينية و كلما ذكرنا من الأقطار يسير أهلها مثابرين في ذلك بحسب الطاقة والاقتدار.

  فعلى هذا ليس من الأنصاف أن تتركوا وطنكم الرؤوم بلا محل يؤوي إليه أولادكم لتعلم معارفهم والاطلاع على مسائل دينهم و أحكامه ليعرفوا كيف يعبدوا إلههم مضافاَ إلى ذلك ما يكسبون من مكارم الأخلاق و تصفية الأذهان .

على أن بلادكم القطيف فيها من الاستعداد ما يقوم بهذا المشروع و زيادة مادياً وأدبياً فأن فيها من العلماء الفطاحل الذين يستطيعون القيام بأنواع أبحاث الخارج وفيها من الجهابذة الأفاضل المترشحين لدرجة الاجتهاد كثير و من الطلاب المحصلين عدد ليس بالقليل و من المتعلمين الراغبين عدد ينوف على المائة أفتكرهون لبلادكم أن تكون كغيرها من البلدان العلية مناخاً لذوي الألباب السليمة و منزلاً لذوي المعارف و محطاً لرواد العلوم الدينية ؟ أليس هذا مكسباً لكم حسن الأحدوثة و جميل الذكر أتدرون أن تأسيس مدرسة علمية في القطيف يحييها و يطير باسمها بعد أن كانت خاملة الذكر كأنها لم تخلق في الدنيا . فاغسلوا هذا الدرن بتأسيس مدرسة علمية تكفيكم مؤونة دينكم و تضمن الرقي لأولادكم فترقى بهم إلى أوج الاجتهاد بعد أن كانوا في حضيض التقليد , فتكرهون لأولادكم الوصول إلى الدرجات الرفيعة و المراتب العالية و الخروج من الهمجية ؟
أتعلمون أن الأجنبي إذا دخل بلاداً يسأل عما فيها من المكتبات و النوادي العلمية و المجتمعات الأدبية والمدارس فيخرج منها ذاماً أو مادحاً . وبلادنا القطيف خالية من كل خير فلا يخرج منها الأجنبي إلا ذاماً, أفترضون بهذا ؟ كلا لا يرضى الغيور لوطنه المحبوب بالخيبة والذم .

 كل ما ذكرناه , تمهيداً لأصل القضية و تنشيطاً لعزائمكم الوثابة وإثارة لحميتكم العربية وهممكم العالية فاسمعوا الآن ما ندعوا إليه من تأسيس مدرسة علمية لا يستدعي أي مشقة على إي أحد منكم وليس هو إلا شئ طفيف و نزر قليل فإن كل ما يصرف في هذا الشأن بالغاً ما بلغ لعمري و الحق كذلك حيث يقع بإزاء مشروع عظيم , أفلا يستطيع أهالي القطيف أجمع أن تجمع قدراً يقوم بمئونة مدرسة يبقى نفعها خالداً يتلى على صفحات الدهر وجبين التاريخ .

 وإني  ومن سمع بالأمر ليشكر الصنيع لتجار البحرين فقد جمعت لفقرائها خمسة عشر الف روبية أيام كنتٌ هناك تحت العلاج , وأن من الجمعيات لتؤسس الكثير من المدارس و النوادي و الحسينيات والمواكب الحسينية التي يعجز القلم عن وصفها و اللسان عن حصرها و هناك قصة لطيفة تفيدك عما تنتجه الجمعيات الصغيرة , كنت جالساً ذات يوم مع الطلاب في ساحة مدرسة كاشف الغطاء أيام كنت فيها أمام الأستاذ نتذاكر دروسنا , وإذا برجل معيدي قد أقبل و بيده طومار كبير يسأل عن الشيخ كاشف الغطاء حيث كان بالكوفة فقال له الأستاذ : ما شأنك يا هذا ؟ فقال : أريد الشيخ ليوقع في هذه الورقة . فقال : وما هذه ؟ فقال له : هذه ورقة و قفية لحسينية بنيناها في بلادنا فقال له : كم بلغ مصاريفها ؟ قال : سبعمائة دينار البالغة عدداً بحسب الروبيات عشرة آلاف ففتشنا عن بلادهم و إذا هي أقل بلدان العراق, بلاد محفرة تقع على شاطئ الفرات  تسمى (عفج) و ما سمعته مما ذكرناه أقل ما كان فلو ذكر لك خان الهنود العظيم الكائن في النجف و غيره من الخيرات و المبرات لقلت قليل دل خير من كثير مل , حيث يطول المقام و تسئم الأسماع .

 ثم أنتم معشر الأخوان ممن يحبون الخير كإقامة مثل هذا المشروع وتوسيع نطاقه لا يهمكم قول قائل أحمق : أن القطيف ليست صالحة لأن تكون فيها مدرسة علمية فأنكم تعلمون أن رضا الناس غاية لا تدرك , كما وأنكم تعلمون أن أًولى المبادئ والهمم والعلماء بمجاري حركات العالم لا تبرد عزائمهم مهما خابت مساعيهم و يواصلون المسعى بالمسعى و إن فشلوا و الدهر دوار و التاريخ تكرار , و للنفوس إقبال و إدبار فالناهض بفكرة صالحة لا بد وأن يثابر على نشرها و الدعوة إليها ثابت العزم راسخ القدم لا تزحزحه عواصف العواطف و لا تزلزله قواصف المخاوف و لكن عليه أن يستخدم في سبيلها العبر و الغير وبقاء الحال محال .

 فالرجاء منكم أن تمدوا يد المساعدة في إقامة هذا المشروع و توسيع نطاقه من جميع شؤونه فإنكم تعلمون أن الرجل و العشرة لا يستطيعون القيام بمثل هذا المشروع المهم مهما بلغوا في القوة و سعة الحال والمال , فإنكم أن فعلتم لم تروا منها إلا جميل الذكر و حسن الأحدوثة والخير الوافر والثواب الجزيل والثناء الخالد والشكر المؤبد حيث تكن لكم في بلادكم مدرسة علمية دينية تضم بين جوانحها أولادكم فتكون كالأم الرؤوم لهم فيكونوا يداً واحدة على من ناواهم إذ يكونوا هيئة علمية تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و ترشد إلى الخير و تهدي إلى صراط مستقيم .

الأقل : علي المرهون .

هذا هو الهيكل العام و هذه هي الخطوط التي كان الشيخ يراها و يتبناها لدعوته لا شك أن اختيار طريقة معينة لتنظيم الحياة المعرفية والثورة الثقافية كانت و دائماً راسخة في ذهن الشيخ المرهون على أساس مفاهيم معينة بحيث قادته عليه الرحمة لإصدار تلك الرسالة المباركة ونشر ذلك البيان في وقت يضيق المجتمع حتى بنفسه في ظرف كان يأمل الشيخ أن تأخذ دعوته دورها وتأتي أكلها إلا أنها تجري الرياح بما تشتهي السفن وعلى الرغم من ذلك فقد كيَّف الشيخ أفكاره تكييفا اختياريا جعله ينسجم مع محيطه و بيئته و هو ذلك الشاب الذي يملك من سلفه على مر الزمن خبرة أوسع و شمولاً أكثر و أعمق . إذاً ما هي الدوافع التي دفعته إلى أطلاق تلك الدعوة لإنشاء حوزة علمية في بلده القطيف أراد الشيخ أن يتغلب على عقبة كؤود ارتهن في إطارها تفكير مجتمعه فترة طويلة أراد أن يوجه ذلك المجتمع نحو واقع المعرفة و الحياة الاجتماعية والعلمية و متطلباتها لينزل به من الفضاء الذهني الذي كان محتبساً فيه إلى تضاريس الحياة الاجتماعية و ميدان التجربة الحياتية للإنسان القطيفي بكل ما تختزنه من وقائع وتصدعات و أخاديد و ما ينجلي عنها من أفكار وإضاءات و ما تفتح منه و تقوله من مقولات وما تخفيه ولاتفصح عنه من روئ واستفهامات هكذا أراد الشيخ المرهون أن يحرر الوعي في خطابه و رسالته ( له دعوة الحق ) المكتوبة بخط الشيخ نفسه والمنشورة في كتاب الشيخ علي المرهون رؤية مجتمع وتجربة حياة للأستاذ عبد الإله التاروتي من أجل ذلك أراد الشيخ رضي الله عنه أن يتخلص من الاستغراق الخيالي في مفاهيم تجريدية حيث استلهم من أبيه الروحي و معلمه الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء رضوان الله عليه أفكاره ونظرياته واطروحاته ولكن هذا الاستلهام كان مصداقاً عميقاً لإعمال الخاطر في الشئ حسب تعريف ابن منظور للفكر . عند إذنٍ لنتوقف ولو للحظات قليلة لنستمع باأٌذنٍ صاغيةٍ و واعية و مدركه لشهادة ابن المرجعية الكبرى الراشدة في حينها و هو يٌدلي بشهادته لا عن بعد بل بمرأى العين بباصرة بصيرة و تلمذةٍ على يديه قديرة لنستمع لنجل الامام الأكبر الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قدس سره ذلك هو الشيخ شريف ابن الحسين آل كاشف الغطاء وهو واحد من تلامذة الشيخ علي المرهون أعلى الله درجاته إذ يقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم كان الشيخ علي المرهون أحد طلاب مدرسة الامام كاشف الغطاء و كان معه أحد أولاده و يدرسون في المدرسة و كان طلاب المدرسة تقع عليها اشكالات نحوية فكان يأتون إلى المرحوم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء فيسألون فيعتذر لهم فيقول لهم إذهبوا إلى الشيخ علي المرهون فسألوه و كان فاضلاً تقياً و رعاً ضعيف الحال يدرس عنده كثير من الطلبة و لقد حضرت عنده قطر الندى مع زميلي شيخ محمد تقي المعتوق القطيفي وكان شيخ أخر و عندما توفي الشيخ محمد الحسين كان الشيخ علي المرهون خارج العراق كان في بلده القطيف وجاء إلى المدرسة و أخذ الغرفة التي كان يدرس فيها و كان لا يرضى يخرج من هذه المدرسة نظراً لرتباطه بالامام كاشف الغطاء مما دعا الامام الشيخ كاشف الغطاء لإسناد تدريس أحد ابناءه وهو أنا الفقير إلى الله الراجي عفو ربه تبارك وتعالى شريف ابن المرحوم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء و كان الشيخ علي المرهون صديقاً للعلامة الشيخ هادي القرشي و كان الشيخ علي المرهون استاذاً في النحو والفقه )
الشيخ شريف محمد الحسين ال كاشف الغطاء
25 جمادى الآخر 1433 هـ

النجف الأشرف – العراق

فانطلاقة الشيخ بهذا المشروع تعني القدرة على أنتاج أكبر عدد ممكن من ألأفكار الإبداعية مما يبرهن على قدرته على المواجهة من حيث الشجاعة والأقدام في موضوع معين كهذا في وحدة ٍ زمنية ثابتة بالمقارنة بغيره. خاض الشيخ هذه التجربة المباركة بشجاعة فائقة قادته إلى رحلة الرياض كما يحلو له هو أن يسميها مرفوقاً بأبيه و قد دفع ثمنها غاليا باهظاً في سبيل العلم والوطن ولم يكن في مواجهته هذه مهادناً و لا مساوماً و لا مستسلماً و أنما كانت تتولد لديه معارف يقينية بملاك التلازم الموضوعي المستمدة من التجربة و الاستقراء و ينشأ إليه اليقين نتيجة ارتباطه بالمعبود جل وعلا واقل ما يقال حول مشروعه هذا و دعوته رضوان الله تعالى عليه ( له دعوة الحق ) هو كونه استطاع أن يؤسس مدرسة قامت بأحداث نقلة ابتسلولوجية في وطننا الغالي القطيف خاصة فنحن إذاً غير معذورين في عدم إعطاء هذه المدرسة ما تستحقه من اهتمام و دراسة وجهد لأن هذا يشكل واجباً و أن لم يكن عينيا فكفائيا على أقل تقدير وهذا من أبسط حقوقها علينا أبناء هذا الوطن القطيف الغالي . سؤال نطرحه على أنفسنا و نحن نؤرخ لمرحلة الشيخ الجهادية في وقته و زمانه التاريخ هنا وبالذات في تلك المرحلة ليس مجرد تعاقب للأحداث ووصف لها نرويها بصيغة ما . و ليست حركته عليه الرحمة حركة جامدة بل ليست دعوة خالية المضامين  بل لها عوامل نفسية واجتماعية بل هي جزء من اجزاء التاريخ لاتصدر بصورة عبثية و من دون تحرك بل لها أسباب وعلل فلذا تراه يتحدث في خطابه عن محطات للمعارف و شتى العلوم يتحدث عن النجف وكربلاء و الكاظمية وخراسان و شيراز و اصفهان بل يذهب رضوان الله عليه بعيداً ليشمل الحديث الأفغان والتبت والهند والبربر هذا الاتجاه الجغرافي يرى فيه رضوان الله عليه أنه مصدر التغيير والنهوض بل يجب البحث عن طريق ملاحظة تعاقب الأحوال الجغرافية حينما يتعرض لأكثر من قطر و مصر فتراه يعقب مرة أخرى بالاعتماد على الاتجاه العرقي فيذكر بنشاط التبت والبربر . هذه التقديمات و التفسيرات باأشكال  متقاربة و متفاوتة تترتب عليها القوة فيما طرحه بحيث لا تحدث القطيعة بين منهجه وفكره السؤال المطروح علينا ثانياً هل توفقنا في عملية القراءة النموذجية لهذا المشروع الفكري النهضوي لتعم فائدته على أنفسنا لنكون على مستوى طموح مؤسس هذه الدعوة رضوان الله عليه و نكون قد نقلنا الشيخ علي المرهون من أمام جماعة و ذاكر للحسين و مرشد و أستاذ إلى صاحب مدرسة جهادية و تيار هادف هذا ما نرجوا الاجابة عليه

فسلام عليك يا أبا فرج وأنت تطل علينا من علياءك وترمقنا من فردوسك و لأن فقدناك جسداّ فأن روحك لم تفارقنا أبداً .