فصائل الدم والنّعمة الإلهيّة؛ دوفي جروب أنموذجا
من البراهين الوجدانية الدالة على وجود الله جلّ وعلا هو برهان النّظم والّذي يعني «بصورة مبسطة» أنّ هذا الكون بدقّة سبكه وعظيم تناغمه لا يمكن أن يوجد إلّا بفعل خالق مدبّر حكيم، وفطرة الإنسان في أيسر صورها تدلّه على الباري عزّ وجلّ، فكما ورد أنّه حينما سُئل أعرابيّ كيف عرفت بوجود الله عزّ وجلّ، فقال: البعرة تدلّ على البعير والأثر يدلّ على المسير فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدلّ على السميع البصير؟! وقد أشار الله جلّ وعلا إلى هذا المعنى في قوله تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾. ومن الجميل هنا أن نتعرّف على إحدى مصاديق هذا البرهان والتي تشير إلى بديع قدرة الله والّذي يتمثل في أحد مجموعات الفصائل الدمويّة للإنسان والتي تسمى بدوفي جروب أو مجموعة دوفي.
تمّ اكتشاف فصائل الدّم لأولّ مرّة في عام 1900 م بواسطة العالم الإحيائيّ الشّهير كارل لاندستينر وأستمرّ العلماء في اكتشاف فصائل الدّم حتى زماننا هذا وقد وصل عدد مجموعات فصائل الدّم المكتشفة الى 33 مجموعة والعدد لا زال في اطّراد مستمرّ، ومن بين أهمّ هذه المجموعات كانت مجموعة دوفي والتي تمّ اكتشافها في عام 1950 م وسمّيت بذلك نسبة للمريض الذي كان يملكها.
ما يُعَدّ مثيراً بخصوص هذه المجموعة هو نسبة تواجدها بين شعوب العالم، حيث أنّ هذه المجموعة لديها أربعة فصائل فرعية مختلفة، 3 موجبة وواحدة سالبة، فإذا جئنا للفصائل الموجبة منها فهي تحوي أنتيجينات - بروتينات دموية - لها خصائص ووظائف متعددة، وفضلاً عن خاصية كونها زمرة وفصيلة للدّم فإنّ لها وظائف أخرى، حيث أنّها تعمل كمستقبل لدخول طفيليّ الملاريا «P. vivax» للخليّة الحمراء فيكمل دورته الحياتيّة التكاثريّة ويتسبب في مرض الشّخص الحامل له، فوجد أنّ فصيلة دوفي السّالبة والّتي تخلو من هذه الأنتيجينات «المستقبلات» لديها مقاومة فاعلة لمرض الملاريا من هذا النّوع، واللّافت في الموضوع أنّ هذه الفصيلة السّالبة رغم ندرة تواجدها بين الشّعوب القوقازيّة «البيضاء مجملاً» والآسيويّة إلّا أنّها تتواجد بنسبة غالبة عند الشّعوب السّوداء «ما يقارب 68% بالمئة من السّود»، نعم هم ذات الشّعوب الّتي استوطن مرض الملاريا في مناطقها، فكان وجود هذه الفصيلة السّالبة بنسبة غالبة عندها نعمة عليها، حيث كان أحد السّبل التي تقاوم بها هذه الشّعوب هذا المرض المشؤوم رغم قلّة حيلتها وضعف معيشتها فسبحان الخالق الرّازق على هذا التّناسب والتّناغم الّذي جعله يخدم حاجة الإنسان.
وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ الطّفيليات المسبّبة لمرض الملاريا هي عدّة وأشدّها وطأة هو «P. falciparum» وما يليه في الفتك بل من أقدمها كان هذا الذي أشرنا إليه هنا «P. vivax»، فهب أنّ هذه المقاومة الذّاتيّة لم تكن موجودة لدى هذه الشّعوب المسكينة، فكيف كان حالها مع تواجد طفيليّ آخر من طفيليّات الملاريا ليفتك بها، وقد أفادت الدّراسات بِنُدرة الإصابة بالملاريا من هذا النّوع في مناطق غرب أفريقيا، وأفادت أخرى أنّ المناطق الجنوبيّة من القارّة الإفريقيّة هي بالجملة مناطق خالية تماما من وجود هذا المرض.
وقد يُشكل بالقول إنّ وجود هذه الفصيلة هو انتخاب وتطوّر طبيعيّ ظهر في وقت إصابة هذه المناطق بمرض الملاريا وليس هو نعمة إلهيّة بحدّ ذاته، ولكن هذا الإشكال ضعيف ومردود لعدّة أسباب، أحدها أنّ فصائل الدّم تُعَدّ جزء من تكوين الإنسان وليست أمراً عارضاً عليه كحال المرض، وكذلك قد أقيمت العديد من الدّراسات لأجل إثبات أنّ هذا الأمر هو انتخاب طبيعيّ ولكنّها فشلت لسببين أوّلهما هو كون هذه الفصيلة موجودة كذلك في مناطق معيّنة بنسب عالية وهذه المناطق لم تتعرض للملاريا على الإطلاق، والثّاني هو التّنوّع الجينيّ الكبير بين الشعوب التي تملك هذه الفصيلة والذي يجعل هذه الفرضيّة مستبعدة كذلك، فالحمدلله ربّ العالمين على عظيم نعمه وجزيل عطائه.