جيل ما بعد النزاعات الدينية
نقصد بالنزاعات الدينية تلك الممارسات التي جعلت من الدين مادة للشقاق والصراع والتفرق بتحكيم الأهواء والمصالح الضيقة فيه وعليه. وقد أكدت الآيات الشريفة أن هذا ليس من الدين في شيء. يقول تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» ويقول جل شأنه: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» ويقول: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» ويقول: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».
هذه النزاعات المتخذة من الدين زيّا لها، والتي تصدر من أناس يحسبهم الجاهل متدينين، تكون سببا لخروج الناس من دين الله أفواجا. والسبب في ذلك أن كثيرا من الناس لا يفككون بين الدين والمحسوبين عليه، فيجعلون من تصرفات هؤلاء مقياسا ومعيارا للدين نفسه، بدلا من أن يكون الدين هو الميزان الأساس لمعرفة الوزن الحق عند كل أحد، وهذا ما بينه الإمام علي إذ قال: إن دين الله لا يعرف بالرجال، بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله.
وقد أشار القرآن الكريم لهذا الأمر كما استظهره بعض المفسرين من ذيل قوله تعالى: «وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ». فهذه الآية تذكر أولا المؤسسين للتفرقة كما أسماهم صاحب الميزان، ثم تذكر حال الخلَف من بعدهم، وأنهم وقعوا في شك مريب من الكتاب نفسه، إذ لم يفككوا بين الكتاب وأهل الكتاب الذين نبذوا الكتاب «كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ».
وما ينبغي أن نتأمله هنا هو أن ما أصاب الجيل التالي ليس هو مجرد الشك في الدين، وإنما شك موصوف بأنه مريب، وقد أكدت ذلك الآية بحرف التوكيد «إنَّ» وباللام المزحلقة في قوله: «لَفِي شَكٍّ». فما معنى وصفه بالمريب؟
إن الشك هو حالة من الحيرة والتردد قد تحدث لأي أحد عند تساوي الطرفين عنده في قضية ما، ولكن الشك المريب هو الشك المصحوب بالقلق والتكذيب والاتهام. جاء في تفسير أبي السعود «ت 951هـ»: «والريب في الأصل مصدر رابني، إذا حصل فيك الريبة، وحقيقتها قلق النفس واضطرابها، ثم استعمل في معنى الشك مطلقًا، أو مع تهمة؛ لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة».
من هنا نفهم تأثير النزاعات الدينية في الأجيال اللاحقة واضطرابها في أمر الدين وتشكيكها في ثوابته وأسسه. وهو أمر خطير جدا يجب على كل المتدينين الالتفات إليه والحرص على تفادي الأسباب المؤدية إلى الوقوع فيه «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً».