السرّ.. في إحياء عاشوراء
عاشوراء.. وسرّ الخلود
لماذا تختلف عاشوراء عن بقية الأحداث والمعارك التاريخية؟ وماهو سرّ خلود واستمرارية الشعائر الحسينية رغم تقادم الزمن؟
قد يبدوا للبعض أن عاشوراء مجرّد معركة عادية، هزم فيها من هزم، وانتصر فيها من انتصر، وأنها لا تختلف كثيراً عن العديد من الصراعات والمعارك التاريخية. ولو نظرنا من جهة أخرى، فإن عطش إسماعيل عند البيت، وركض هاجر بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء لرضيعها العطشان، تبدوا أيضاً لأول وهله أحداث عادية مثل كثير من أحداث العطش والعوَز. وكذلك فإن ذبح إبراهيم للكبش فداءاً لابنه، أو الوقوف في عرفات، تبدوا أيضاً أحداث عادية، في ظاهرها.
ما يميز معركة عاشوراء، وشعائر الحج الإبراهيمي عن بقية الأحداث التاريخية هو الجانب الملكوتي النوراني. فظاهرها أعمال عادية، وباطنها أنوار ملكوتية. فهذه الإبتلاءات التي وقعت على إبراهيم الخليل ، أو على حفيده الإمام الحسين هي مواقيت لتجلّي الأسماء والصفات الإلهية على أرواحهم، فأصبحت أعمالهم مرآة النور والفيض في عالم الملك، بل وفي جميع العوالم. لذلك فإن الخلائق والملائكة والبشر تحوم حول هذه المواقيت والشعائر لتتلمس منها بعض من وميض التجلّي والنور الإلهي. فلا عجب أن تمت إجابة النداء الإبراهيمي للناس بالحج. وكذلك كان النداء الحسيني للحج إلى كربلاء «ألا من ناصرٍ ينصرنا»، الذي نادى فيه الأرواح من عالم الذر إلى اليوم الموعود. فحقيقة النداء الحسيني هو لإخراج الناس من ظلمات البعد عن الله، إلى أنوار القرب والذكر والعرفان.
مظهر تجلّي الإسم الأعظم
«يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به»
عاشوراء من مصاديق النور التي جعلها المولى عزّ وجل للمؤمنين في الحياة اللدنيا ليخرجهم من الظلمات الى النور. بل إن عاشوراء من محالّ القدس، وميقات الفيض والقرب، ومظهر لتجلّي الإسم الأعظم على العالمين. ويغلب على هذا التجلّي الرحمة الرحمنية على الوجود، والرحمة الرحيمية للمؤمنين، لذلك كانت عاشوراء مظهر من مظاهر تجلّي «بسم الله الرحمن الرحيم». فعاشوراء مظهر الرحمة على الوجود، ومظهر الهداية للمؤمنين.
لذلك فإن جميع الأنبياء والرسل والملائكة تتلمس هذا الفيض من ميقات عاشوراء. فالملائكة تعشق النور وتجلي الأسماء والصفات، وتحوم وتتزوّد من هذه المواقيت. إن صعود وهبوط الملائكة إلى كربلاء هو للتعرض لهذا النور والفيض. وكذلك فإن ذهاب الأنبياء الى كربلاء هو للتعرض للفيض والتجلّي. وهو كميقات الكعبة المشرّفة، يؤمّها الملائكة والأنبياء والمؤمنون للتعرض للفيض ولذكر الله.
إن عاشوراء ميقات لتجلّي الأسماء والصفات، وتجلّي الإسم الأعظم على روح ولي الله المعظّم، وخامس أصحاب العباء، ليكون مصباح الهدى، وسفينة النجاة كما قال سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام. وجُعل مصاب أبي الأحرار ميقات لنزول الفيض إلى عالم الملك، ومرآة التعرّض للنور، وجذوة من نار الأنس مع المعشوق، تركها أصحاب الكساء قبل أن يُرفعوا عن عالم الملك، لتكون مصباحاً للهدى، وسفينة للنجاة، وتحقيقاً للخلافة الإلهية.
مشكاة النور.. ومعرفة الله
إن غاية وجود الإنسان في هذه الحياة هوأن يكون قلبه محل لتجلّي أسماء الخالق وصفاته، وهي حقيقة معرفة الله المعرفة الحضورية أوالروحية. وهذه المعرفة لا تتحقق إلا بإشراق نور الأسماء والصفات في قلب المؤمن. وبعد أن هبط الإنسان إلى عالم الملك والكثرة، أو إلى الأرض، جعل المولى عزّ وجل مواقيت لتجلّي النور والفيض من عالم الأمر إلى عالم الملكوت، وكانت هذه المواقيت مصابيح الهدى، ومشكاة الضياء، ومواضع المعرفة، وحقيقة الذكر، ونور السماوات والأرض.
إن عاشوراء مشكاة لمصباح النور والهداية، ومرآة الفيض والتجلّي الإلهي. وكما أن الفراش التائه في ظلمات الوجود ينجذب نحو مصباح النور، فإن الأرواح الطاهرة كذلك تنجذب لمشكاة النور.
الفيض في قبال البلاء
إن خصوصية بلاء ومصائب عاشوراء عن غيرها، هي أن الإمام الحسين كان مرآة الفيض والرحمة الإلهية. ما أعجب هذه الشفقة والرحمة والجمال الحسيني الذي ضحى بهذه التضحيات العظام ليشرق نور الرحمة الرحيمية، ويكون سبباً لرحمة المؤمنين، وإنارة أرواحهم وهدايتهم وإنقاذهم من ظلمات المادة والبعد عن جمال العشق الإلهي.
إن لكلّ بلاء وأذى تعرّض له الإمام الحسين فيض من الرحمة وتجلي لنور الأسماء والصفات، فالفيض والرحمة والقرب هو في قبال البلاء. لذلك كان ظاهر عاشوراء هو البلاء، وباطنها هو الرحمة والحب والجمال، ولذلك قالت العقيلة زينب «ما رأيت إلا جميلا»، فهي تتحدث عن أنوار الفيض والرحمة الإلهية، وتتحدث بعين البصيرة.
عاشوراء.. وجاذبية النور
إن عاشوراء من مظاهر جمال وجلال وجاذبية نور الإسم الأعظم. فمهما ضعفت قابليتنا لاستقبال هذا النور العظيم، ولم نملك اللياقة لاستقبال الفيض بسبب البعد والإنغماس في الكثرة وأدران الذنوب، فإن جاذبية الوميض الذي يدخل في القلوب مهما ضعفت قابليتها ولياقتها، فإن هذا الوميض كافي لجذب روح الإنسان إلى محضر الميقات، ومجالس العزاء لينال من الفيض بقدر قابليته.
وهذا الفيض والنور هو الذي يجذب المؤمنين لإقامة الشعائر والبكاء والحزن على مصاب الإمام، لكي تنال أرواحهم بعضاً من هذا النور والفيض، فيكون سبباً لغفران الذنوب، وللحياة الحقيقية. بل إن باطن هذا البكاء والحزن هو البهجة والأنس بأنوار سبحات معرفة الخالق، وسكرة الشوّق إلى المعشوق. إن إشراق النور على أرواح المؤمنين هو الذي يشعرهم بالخشوع والبكاء «ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا».
لذلك نحن نحيي عاشوراء
إننا لم نحيي عاشوراء بميزان الأجر والثواب، وليس بميزان الخوف والعقاب، وإنما بجاذبية العشق الإلهي، وجاذبية الرحمة الإلهية، وتجلّي الفيض بين العاشق والمعشوق، والذي كان الإمام الحسين مظهره «فدنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى».
نحن نحيي عاشوراء لأن نور الفيض والتجلي الذي يسقط على أرواحنا يجذبنا نحو الحسين ومصباح الفيض. نحن نحيي عاشوراء لأننا بحاجه إلى الفيض والنور، لنطهر أرواحنا من أدران الذنوب والغفله، والانغماس في الكثرة، ونسلم القلب إلى تسبيح الواحد القهار. إن إشراق النور في قلب المؤمن هو الذكر والمحضريه في ساحة القدس، هو الهدايه، هو العشق والأنس، هو الصراط المستقيم، هو الحياة من الموت، وهو النجاة في الآخرة، ووهو ميزان الاعمال. إن عاشوراء من مصاديق الآية الكريمة «ويجعل لكم نورا». فهي مصباح النور لأهل الأرض ليتزودوا، وليقتربوا الى نار العشق والمعرفة.
إن رشفة من هذا النور والتجلّي، الذي لم تحمله السماوات والأرض، وحمله الإنسان، هو خير العبادات، وهو الذكر الخفي. فغاية العبادات والتشريعات هو ذكر الله، وتجلي نور الأسم الأعظم في روح الإنسان «وأقم الصلاة لذكري». إن هذا التجلّي لا تبقى معه الذنوب، وهو حقيقة القرب والبعد من الغفله، وهو النعيم المقيم «ولتسألن يوم إذن عن النعيم».
إن من علامات إشراق النور في قلب المؤمن هو البكاء على الإمام الحسين ، لذلك لو كان مقدار جناح ذبابه، فهو سبب لغفران الذنوب، «ومن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره». فالبكاء والحزن على مصاب الإمام هو من أسباب وعلامات إشراق النور.
لماذا قام الإمام بهذه التضحية العظيمة
لقد سعى الإمام الحسين إلى كربلاء للقاء المعشوق يوم عاشوراء، وتلقي فيض تجلي الأسماء والصفات بل والإسم الأعظم، ليشرق هذا الفيض من عالم الأمر، نزولا إلى عالم الملك، ويكون الإمام مرآة لنور وتجلي الرحمة الرحيمية على الوجود.
إن هذا الفيض والتجلي العظيم الذي اندك له الجبل الأشم، وخر الكليم صعقا لرؤية مرآة بعض الفيض، تحمّله الإمام الحسين ليكون مشكاة النور والهداية إلى المعشوق. وإن ما تعرض له الإمام من المصائب العظام هي لإظهار عظمة هذا الفيض والنور، وحجية الإمام على الخلائق والأنبياء والمرسلين وعلى الملائكة المقربين، أن لا يتحمل هذا الفيض غير أصحاب العباء. فكانوا هم المظهرين لأمر الله، والحافظين لسره، وعباده المكرمون.
الحواريون.. ومذبح القربان
إن خروج الأصحاب والنساء والأطفال مع الإمام إلى ساحة المذبح وتقديم القربان العظيم هو بفضل جاذبية هذا الفيض، ونور جمال وجلال المعشوق، كيف لا وهم يرون مرآة التجلي ومصباح الفيض بينهم يخطوا نحو ساحة القرب والفناء في المعشوق، ويقدّم نفسها قرباناً لإشراق نور الأسماء والصفات على الخلائق.
وكيف لمن يسقط في دائرة المعشوق، ويشعر بحرارة جذب المحبوب، أن يرجع إلى الدنيا وحطامها، أو أن يلتفت إلى نعيم الجنة وثوابها. فإشراق سبحات نور المحبوب هو نعيم المقربين، وأنس المستوحشين، وغاية سؤل الطالبين.
إن إشراق النور في روح الإنسان هو غاية الوجود. لقد قدم الإمام الحسين أصحابه َوأبنائه على مذبح القربان أمامه ليتأكد من إنقاذهم من الغفله والبعد، ويأخذ بأيديهم إلى ساحة المعشوق الحقيقي. رغم أن الإمام لم يطلب منهم أن يقاتلوا، ولكنه وصل بهم إلى ساحة العشق والحب. فكيف لهم أن يعودوا عن ساحة المعشوق. لقد أشرق نور المحبوب في أرواحهم الطاهرة، وأصابهم الجذب اللامتناهي نحو المحبوب، وشعروا بنيران حب المعشوق، فكيف لهم أن يعودوا عن هذه الساحه وإن أذن لهم الإمام.
لم يجذبهم نعيم الجنة، ولا خوف النيران، بل جذبهم نار حب المعشوق، فلم يملكوا الا أن يرمّلوا نسائهم، وييتموا أولادهم، ويرموا بأنفسهم في نار حب المعشوق للدخول إلى ساحة السجود والتجلي والذكر والفيض، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
يتبع..