من أحيا عاشوراء.. فكأنما أحيا الناس جميعاً
إشكالات حول إحياء عاشوراء
تطرح بعض الإشكالات على أتباع مذهب أهل البيت، أنه لماذا تحيون شعائر عاشوراء في كل سنة. وإلى متى تبكون وتندبون الإمام الحسين علييه السلام. هل البكاء مفيد أو سوف يغير ما قد حدث قبل أكثر من ألف سنة؟ لماذا نعيش في الماضي بدلا عن المستقبل؟ هل نستطيع أن نغير الماضي؟ فالعزاء والبكاء مهما طال، لن يغير ما حدث. وإن مقتل الإمام الحسين هي قضية منتهية لا جدوى من إحيائها.
بل إن هناك من يتهم الشيعة بقتل الإمام الحسين ، وأن ما يقومون به من بكاء وعزاء ولطم هو إمّا لشعورهم بالندم لقتل الإمام، أو لشعورهم بالذنب على التقصير في نصرة الإمام . وكل هذه إفتراءات المراد منها إطفاء نور الإمام الحسين ، وظلم لقضيته.
وقد يتصور البعض أن عاشوراء ومراسم إحياء عزاء أبي عبدالله الحسين هي مجرّد طقوس وعادات إعتاد عليها الشيعة جيلاً بعد جيل. وأن ليس هناك أي بعد ديني أو تعبّدي في إحياء هذه الشعائر، بل هي مجرّد طقوس وعادات.
الإنكار على الإمام الحسين في خروجه
من جهة أخرى، فقد استنكر في السابق البعض على الإمام الخروج، وأبدوا آرائهم المعارضة لخروج الإمام، وحتى من بني هاشم كان هناك من يعارض الإمام في رأي الخروج وينصحه بالذهاب إلى اليمن أو الى مكان لا يصلون إليه فيه. والاعتراض على خروج النساء والأطفال كان أشد، لأن الإمام أخبر بأنه يستشهد في خروجه، وأن نسائه سوف يسبون.
فلم يكن في جواب الإمام احتمالات للنصر العسكري، بل كان مقرّاً بالاستشهاد. ولذلك كانت الآراء كثيرة في معارضة خروجه، وهذا أيضاً يعكس قلّة من خرج مع الإمام ونصره. فالرأي الغالب هو معارضة الإمام في الخروج. وحتى اليوم يرى البعض أن رأي الإمام غير صائب لأن الإمام لم ينتصر في المعركة عسكرياً، ولم ينتزع الخلافة بالقوّة. وهذا فيه قصر نظر عن الأهداف السامية للإمام في خروجه، وعدم إدراك للفتح العظيم الذي خرج من أجله الإمام الحسين .
إذاً، الاعتراضات اليوم على إقامة عزاء الإمام الحسين ، تماثل اعتراضات الأمس على خروج الإمام، وجميعها تعكس عدم فهم الإمام وحركته والنصر العظيم الذي سعى من أجله، بلّ وحققه. ولا زالت تطرح بعض الإشكالات ضد حركة الإمام الحسين . فالبعض يستنكر خروج الإمام، لماذا يخرج الإمام الحسين في معركة خاسرة عسكرياً قبل أن تبدأ؟
القرآن وإحياء قصص الأنبياء
إذا كان مقتل الإمام الحسين قد حدث قبل أكثر من 1300 سنة، فإن القرآن الكريم أحيا قصصا من الأولين ضاربة في القدم. فقد أحيا القرآن قصة نبي الله موسى مع الفرعون بكثير من التفاصيل. فقد ذكر كيف رمته أمه في اليم، وكيف عاد إليها، وكيف تحولت العصا إلى ثعبان، وكيف فلق البحر، وكيف أحيا النفس في سورة البقرة، وغيرها من التفاصيل.
وفي سورة يوسف، أحيا القرآن قصص يوسف مع إخوته وكيف ألقوه في الجب، ثمّ بيعه في مصر، وقصته مع زليخا ونساء مصر، ودخوله السجن، إلى أن صار عزيز مصر وجلب أهله من البدو. فسورة كاملة تدور حول حياة يوسف . وسرد القرآن كثير من قصص الأنبياء كقصة نبي الله سليمان مع بلقيس وغيرها.
وإذا كان القرآن قد أحيا قصص من هم قبل الإسلام بآلاف السنين من أنبياء وصالحين، فإحياء قصص أئمّة الإسلام وإحياء قضية الإمام الحسين لا يعتبر بدعة، بل هو إتّباع لنهج القرآن من جهة، وفيه إحياء للدين وفهم المنهج الديني من جهة أخرى.
القرآن وإحياء قصص الصالحين من غير الأنبياء
وإذا أشكل البعض أن القرآن أحيا قصص الأنبياء، والحسين ليس بنبي، فلقد أحيا القرآن قصص الصالحين من غير الأنبياء مثل قصة أصحاب الكهف، والفتية الذين لجأوا إلى الكهف حفاظاً على دينهم، وكيف أن المولى عزّ وجل أنامهم في الكهف ثلاثمئة وتسع سنوات، ثم بعثهم من جديد. فهؤلاء فتية آمنوا بربهم، وهم ليسوا بأنبياء، ومع ذلك ذكرهم القرآن تخليداً لذكرهم.
وكيف أن قومهم اتخذوا مسجداً لذكر الله ومزاراً على قبورهم «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾. فقصة أصحاب الكهف تحبذ وتشرّع اتخاذ المساجد والمزارات عن أضرحة الصالحين كما هو الحال عند ضريح الإمام الحسين وبقية الأئمة . فلو كان مثل هذا العمل شركياً، أو فيه لون من الكفر لأنكره القرآن. ولكن ذكر هذا العمل في القرآن يوضح أهميّة هذا العمل ورشده.
وكذلك أحيا القرآن قصة الخضر، وهو عبد من عباد الله الصالحين، مع نبي الله موسى، وخرقه للسفينة، وقتل الغلام وإقامة الجدار. وكذلك إحياء قصة ذو القرنين رغم أنهم ليسوا من الأنبياء، ولم يذكر القرآن أنهم كانوا أنبياء. إذاً، لقد أحيا القرآن قصص الصالحين أيضاً ولم يكتفي بقصص الأنبياء فقط.
فهذه القصص لها على ما يقرب من الألفي عام أو أكثر، وقد حدثت قبل الإسلام، ومع ذلك أحياها المولى عزّ وجلّ في كتابه المجيد. ونحن نحييها بشكل مستمر عند قراءتنا للقرآن الكريم.
نوعان من القتل.. الجسدي والمعنوي
هناك نوعان من القتل، الأول وهو التصفية الجسدية وإزهاق الروح. وأما النوع الثاني فهو تشويه صورة الصالحين لتبرير قتلهم. وطمس آثارهم. فنجد أن قتلت الأنبياء والصالحين لا يكتفون بالتصفية الجسدية، بل يعملون على التصفية المعنوية لطمس نور الانبياء وأبعاد الناس عن إتباعهم. فكثير من الأنبياء والصالحين تم إتهامهم بالسحر والجنون لإبعاد الناس عنهم.
إن تشويه صورة الأنبياء والصالحين، واتهامهم بالباطل وطمس آثارهم هو أشد سوءاً وأكثر ظلماً من قتلهم وتصفيتهم جسدياً. لأن أثر الأعمال الصالحة يبقى ما بقي الدهر﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾. فتستفيد الإنسانية جيلاً بعد جيل من أثر هذه الأعمال الصالحة وتقتدي بها، وتجعل منها مناراً للعلم والمعرفة والإصلاح. من جهة أخرى، فإن تشويه الصالحين، لي يتوقف على الظلم الشخصي لهم، بل فيه تشويه وطمس للقيم الصالحة، وفيه إفساد للأرض لأنّ فيه إسقاط للقيم بإسقاط الشخصيات الصالحة، وبالتالي فيه نشر للأخلاق والقيم السيئة.
نوعان من النصر.. المادي والفكري
هناك نوعان من النصر للمظلومين، فهناك نصر في خلال حيات المظلوم عن طريق الدفع عنه عملياً ضد أي إعتداء جسدي عليه. أو الدفع عن ظلمه عن طريق توضيح حقوقه، وإبطال أي أكاذيب أو تلفيقات يتم إتهامه بها من قبل الظلمة تمهيداً لظلمه وسلب حقوقه أو تصفية حياته.
ومن جهة أخرى، هناك نصر بعد وفاة المظلوم عن طريق توضيح مظلوميته، والدفاع عن قيمه التي يحملها، ودفع أي إتهامات فاسدة وغير صحيحة يتم تلفيقها ضده. ومن أعظم النصر للمظلوم هو توضيح الحقيقة، وحقيقة ما جرى، وهذا ما صنعه القرآن في إيضاح الحقائق في قصة مريم أو قصة يوسف عليهما السلام، مثلاً.
وإن هذا النوع من النصر لا ينتهي بانتهاء حياة المظلوم، بل يستمر ما بقي الدهر، وهذا ما فعله القرآن، وحضنا على فعله. وحقيقة نصرة المظلوم هي الدفاع عن القيم الدينية الصحيحة، وإضاءة النور حتى لا يلتبس الحق بالباطل، ولا يغلب الباطل على أهل ذلك الزمان. فالدفاع عن المظلوم، ولو بعد موته لآلاف السنين، يعطي ذلك المظلوم الحياة والخلود. وهذا ما صنعه القرآن، فلقد أعطى الخلود لمريم ويوسف وموسى ولأصحاب الكهف وغيرهم، ولو بعد موتهم لآلاف السنين. لذلك فإنّ الدفاع عن مظلومية الإمام الحسين ليس محدود بزمن معين، بل يجب أن يستمر ما بقي الدهر.
فإذا كان القتل المعنوي والفكري يبقى مدى الدهر، فإن النصر الفكري للمظلوم لا ينتهي بانتهاء حياته، بل يستمر مدى الدهر. وإذا كان الظلم الفكري للشخصيات النبيلة والصالحة هو قتل للقيم وتدمير للمجتمع الإنساني، فإن نصرة المظلومين هو حياة للأمم، وإعلاء للقيم الصالحة. وإذا كان أثر هذه القيم ينعكس على جميع المجتمعات الإنسانية، فإن وجوب نصرة المظلومين كالإمام الحسين هو واجب إنساني لا يحده زمان أو مكان أو دين أو ملّة.
القرآن الكريم وإحياء قضايا المظلومين دفاعاً عن مظلوميتهم:
إننا نستفيد من بعض القصص القرآنية، أن القرآن الكريم قد ذكر بعض القصص من باب الدفاع عن ساحة المظلومين، وهو بذلك يحيي ويخلّد ذكرهم. فالقرآن عندما يذكر قصّة ما، فهو يكشف اللثام عن حقيقة الظلم، ويدفع ببراءة المظلومين، ويدفع عن ساحاتهم كلّ أساليب التشويه والظلم المعنوي. وكذلك القرآن يدعونا لقراءة قصّتهم بقراءتنا للقرآن في كلّ مرّه.
من القضايا التي أحياها القرآن الكريم هي مظلومية أصحاب الأخدود. ففي الوقت الذي لعن القرآن القتلة، ذكر أن المؤمنين كانوا مظلومين، وأن سبب حرقهم هو بسبب إيمانهم وطهارة أرواحهم وتمسكهم بدين الله.
فرغم أن أصحاب الأخدود ليسوا من الأنبياء، ولا من الأئمة أو الأوصياء، ومع ذلك نلاحظ أن القرآن أحيا قضيتهم دفاعاُ عن مظلوميتهم. فلولا أن القرآن أوضح مظلومية أصحاب الأخدود، وأنهم قتلوا إنتقاماً لتمسكهم بدينهم، لظنّ الناس بهم الظنون. ولأشاع ملك ذلك الزمان «ذو نواس» بأنهم خوارج على النظام، وأنهم شرّ من في الأرض، وأنهم قوم فاسقين تبريراً لما فعله من إحراقهم وقتلهم. فذو نواس لن يقول أنهم أناس مؤمنين صالحين متمسكين بدينهم، ورغم ذلك قام بقتلهم. «قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ «4» ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ «5» إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ «6» وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ «7» وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ «8».
فالقرآن أحيا مظلومية أصحاب الأخدود، ودعانا لإحياء ذكرهم وقصتهم بقراءتنا للقرآن الكريم، رغم أن قصة أصحاب الأخدود لها أكثر من ألف وخمسمئة عام، وكانت الحادثة قبل دين الإسلام، ومع ذلك القرآن يحيي ويخلّد هذه المظلومية، وهو بذلك يعّلمنا ويحضنا على إحياء المضلوميات وتخليدها، إحياءً لمن قتلوا ظلماً وعدواً، وتخليداً لذكرهم.
القتل المعنوي في قصة موسى وفرعون
إن من أبشع أنواع القتل هو إتهام وتشويه الشخصيات الرسالية والصالحة. وإن هذا النوع من القتل هو أشد من التصفية الجسدية. ومثال على التصفية المعنوية، نجد أن الفرعون إتهم موسى بأنه مسحور «فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا». وبعد أن انتصر موسى على السحرة الذين أتى بهم الفرعون، إتهمه بأنه كبير السحرة، وأنه هو الذي علمهم السحر «إنه لكبيركم الذي علمكم السحر». وفي مكان آخر، إتهم موسى بالجنون «قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون». وكان عادة الأقوام المكذبين بالأنبياء أن يشوهوا صورتهم ويتهمونهم إما بالسحر أو الجنون «كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحرٌ أو مجنون». ويصف القرآن الكريم تشويه صورة الأنبياء من قبل بني إسرائيل بالقتل «وقتلهم الأنبياء بغير حق» أي ظلمهم للأنبياء بطمس آثارهم وتشويه سيرتهم.
فالفرعون لا يظن في حقيقة نفسه أن موسى مسحورا أو أنه ساحر أو مجنون، ولكن أراد أن يشوه صورته، ويقتل شخصيته معنوياً، ويطمس الحق الذي أتى به موسى. وذلك حتى لا يتأثر به الناس، ويتفرّقوا عن عبادته، ويجتمعوا حول موسى. فموسى ينقض الفكر الفرعوني الذي إدعى فيه الربوبية، والذي فرضه على الناس. فمعاجز موسى تثبت عجز الفرعون وأنه ليس برب. ولذلك الفرعون عمل على التصفية المعنوية والفكرية لموسى، قبل التصفية الجسدية.
وهنا القرآن يدافع عن مظلومية موسى وأحقيته في قبال بطش الفرعون. فذكر القرآن لموسى هو نصرة لمظلومية موسى. وكذلك عندما ذكر القرآن قصة يوسف ففيها دفاع عن شخصية يوسف في عدة مواضع، مع إخوته الذين حاولوا قتله ومن ثمّ اتهموه بالسرقة، وكذلك دافع عن شخصيته مع زليخا التي اتهمته، إلى أن اصبح عزيز مصر.
النصر الإلهي في الدفاع عن مريم
وكذلك القرآن عندما ذكر تفاصيل قصة مريم في حملها وولادتها، دافع عن مظلومية مريم في قبال إتهام بني إسرائيل لها بالبغي، وهي الإمرأة الصالحة الشريفه، وكانت خير نساء زمانها «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا «27» يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «28».
فالقرآن عندما ذكر التفاصيل الدقيقة في حياة مريم عندما أرسل إليها الروح القدس، وكيف أنها حملت من غير رجل، وكيف انتبذت عن أهلها مكانا قصيا، وكيف كانت وأين كانت حياتها في فترة الحمل. فالقرآن ينفي جميع الشائعات والاتهامات التي نالت من ساحة مريم، وأنها مكثت في بيت أحد أثناء الحمل، بل إنها لجأت إلى شجرة، ونهر، وكيف أن الله عز وجل، أسقط عليها رطباً جنيا، وأن جنينها الذي بطنها وهو نبي الله عيسى كان يحدثها ويسليها.
وانتشرت هذه الأقاويل الخاطئة والإتهامات لمريم ، فالقرآن بذكره لهذه التفاصيل الدقيقة، ليس فقط يوضح أن عيسى بشر وأنه خلق من غير أب، ولكنه أيضاً يدافع عن مظلومية مريم، وينزّه ساحتها، ويوضح مشروعها الرسالي وتحمّلها للأذى في سبيل إحياء دين الله. فذكر قصة مريم في القرآن الكريم هو دفاع عن مظلومية مريم، وإحياءً لذكرها في قبال قتلها معنوياً وتشويه صورتها. فمن كان ليصدق بهذه التفاصيل والأحداث لو لم يكشف القرآن عنها الستار.
إحياء القصص.. إحياء للإنسانية
فالقرآن يعلّمنا أنّه من واجبنا الدفاع عن المظلومين حتى بعد موتهم بآلاف السنين، وإيضاح الحقائق الصحيحة لقضاياهم، والجوانب النبيلة لسيرتهم. ففي دفاعنا عن المظلوميات إحياء للأمة وإحياء للناس وإحياء للقيم النبيلة. وإننا إذا لم ندافع عن المظلومين، فإننا نترك المجال للتيارات السلبية التي تنتقص من الشخصيات الرسالية، وتشوه حياتهم، وتتهمهم بالفساد ظلماً وعدوانا.
وإنّ إمتناعنا عن الدفاع وعن إحياء قضايا المظلومين، فإننا نترك الساحة للضمائر السيئة لإسقاط القيم النبيلة، وبذلك تعمّ قيم السوء والفساد والظلم في المجتمعات الإنسانية. إن انتشار القيم الفاسدة في المجتمع الإنساني كانتشار الحشائش الضارة في الأرض الخصبة، والتي ليس فقط تضر بالنباتات المثمرة، بل تقضي عليها. إن قتل الأنبياء والصالحين في السابق يدل على مدى أنتشار القيم الفاسدة وتجذّرها في تلك المجتمعات، وهذا ما يبرر نزول البلاء الإلهي لاجتثاث هذه القيم الفاسدة من الأرض، كما هو حال قوم عادٍ وثمود.
إنّ إحيائنا لقضايا المظلومين هو إحياء للإنسانية، وإحياء للقيم النبيلة. وإنّ في دفاعنا عن الشخصيات المظلومة، هو دفاع عن القيم الصحيحة والنبيلة التي حملوها، وبالتالي تعميق وتجذير القيم الصحيحة في المجتمعات الإنسانية، وطرد ومحاصرة للقيم السيئة والفاسدة حتى لا تنخر في كيان المجتمعات السليمة.
إن الدفاع عن قضايا المظلومين هو واجب إنساني، ويتجاوز حدود الأديان والمذاهب، ويعم الإنسانية جمعاء. وكذلك فإن الدفاع عن قضايا المظلومين يتجاوز حدود الزمان والمكان، فلا معنى للحدود الزمانية والمكانية عند إحياء القيم. وكذلك لا معنى لحدود الأديان والمذاهب في سبيل إصلاح الأرض وإصلاح الإنسانية، ونشر الأخلاق السامية، ونبذ قيم الظلم والفساد والإختداء.
فلو لم يدافع القرآن عن هذه الشخصيات الرسالية والتي تمثّل الدين، لكثرت الشبهات حول سيرتهم وحول ما يمثّلونه من قيم، ولسقطت القيم الدينية بسقوط شخصياتها. فلولا دفاع القرآن عن مريم لعلت أصوات إتهامها، وكذلك عن يوسف وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والصالحين.
ولو أننا نقرأ هذه القصص كمسلمات، ولكن لو لم يدافع القرآن عن ساحة الأنبياء والصالحين، لاتهمهم الناس وشككوا في نزاهتهم وأحقية قضاياهم. وكذلك في إحياء شعائر عاشوراء دفاع عن مظلومية الإمام الحسين، وإظهار لأحقية وعدالة قضيته.
الدفاع عن مظلومية الصالحين.. دفاع عن الدين
وفي الحقيقة فإن دفاع القرآن عن الأنبياء والصالحين هو دفاع عن الدين، لأن إسقاط الشخصيات الصالحة واتهامها بالفساد أو الفجور أو السوء هو إسقاط للدين، ولأحكام الدين وقيمه. فكيف للدين أن يبقى ورموزه تعمل السوء. ولو سقطت الرموز الدينية، فلن يبقى من الدين الا اسمه، يتظاهر الناس بالصلاح ويعملون السوء، ولن يبقى من القرآن الا رسمه حيث لا يعمل به.
فدفاع القرآن عن مريم وعيسى وموسى ونوح وإبراهيم هو دفاع عن دين الله، وإبعاد أي سوء أو اتهامات باطلة أو سوء عن هذه الشخصيات التي أحيت الدين ودعت له.
وفي الحقيقة فإن الله عزّ وجل يدافع عن المؤمنين بشكل عام، ويرفع من شأنهم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾. وإذا كان المولى عزّ وجل يدافع عن المؤمنين، فالدفاع عن الأئمة والأنبياء من باب أولى. وإذا كان المولى عز وجل يدافع عن المؤمنين، فمن واجب الإنسان المؤمن أن يدافع عن المظلومين من المؤمنين. وإذا كانت مظلومية الإمام الحسين هي من المظلوميات الكبرى في التاريخ، فعلى المؤمنين الدفاع عن الإمام الحسين ما استطاعوا إلى ذلك سبيل.
إحياء هذه القصص.. إحياء للدين
عندما يحيي القرآن لكريم هذه القصص هو ليس فقط للدفاع عن ساحة الشخصيات العظيمة، وتخليد ذكرهم، أو لتمجيدهم مثلاً فقط، بل هو إحياء للدين. فإحياء هذه القصص هو إحياء للحكمة الدينية ولقيم الدين. وفي الحقيقة ذكر مثل عفة مريم وعفّة يوسف عليهما السلام هو إحياء للمثل هذه القيمة النبيلة. وكذلك تضحية أصحاب الأخدود من أجل الثبات على الدين وعلى قيم الدين، هو إحياء لهذه الخصال الجميلة وفيه تشجيع عليها، من جهة، وكذلك فيه نهي عن الأخلاق السيئة وإيضاح لمصير المستكبرين والمعاندين من جهة أخرى.
إن إحياء هذه القصص وإحياء هذه القيم هو إحياء لذكر الله ولنور الله في قلوب الناس وفي المجتمعات الإنسانية، وإحياء للعدل والصدق. وحتى لا تشيع الفاحشة وتشيع القيم السيئة، ويشيع الظلم والعدوان بين الناس.
دفاع القرآن عن أهل البيت دفاع عن النور
«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ فالقرآن يصرّح بأنّ المولى عز وجل يدافع عن أهل البيت ، ويذهب عنهم أي إتهام بالسوء والرجس، ويطهر ساحتهم تطهيرا. وذلك لأن أهل البيت يمثلون نور الله، ومحل لذكر الله، ودليل على معرفة الله، وطريقه وسبيله.
والإمام الحسين هو خامس أهل العباء، وهو من أهل البيت الذين يدافع عنهم القرآن وينصرهم، ولذلك فإحياء عاشوراء والدفاع عن مظلومية الإمام الحسين هو في الحقيقة إتباع للقرآن، وتطبيق لآيات القرآن، والعمل في سبيل الله. وإذا كان المولى عز وجل يطهر أهل البيت، فإن الدفاع عن الإمام الحسين هو أمر شرعي ومن الدين، وفيه نصر لله عز وجل.
إحياء شعائر الإمام الحسين.. إحياء للناس
إن إحياء سيرة هذه الشخصيات العظيمة، كشخصية الإمام الحسين ، والتي تمثّل الدين، هو إحياء للناس جميعاً ولأرواحهم. فحياة الناس هي بالحياة المعنوية، وبإشراق نور الله في قلوبهم، وبمعرفتهم لأمر الله عز وجل. فإحياء سيرة الأنبياء والأئمة هو إحياء لأمر الله وإحياء لدين الله ولذكر الله، وإحياء للقيم الصحيحة، وإصلاح للناس.
وفي المقابل، فإن قتل مثل هذه الشخصيات التي تدعوا إلى الله، سيان عن طريق تصفيتهم جسدياً، أو عن طريق تشويه سيرتهم، في الحقيقة فيه قتل للناس جميعاً، وحرمان الناس من هذا النور، وإبعاد الناس عن ذكر الله وعن الدين. فقتل وتشويه سيرة الأنبياء والصالحين كما هو الحال في عدد من قصص الأنبياء السابقين، فيه إسقاط للقيم الصحيحة، وهدم للدين، وإبعاد للناس عن الإيمان والذكر وعن الصلاة. وفي الحقيقة هو القتل المعنوي للناس وإبعادهم عن مشكاة النور.
ولذلك ذكرت الآية الشريفة، أنه من قتل نفساً كالإمام الحسين فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحيا مظلومية الإمام الحسين وسيرته وكلماته فكأنما أحيا أرواح الناس جميعاً. ﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ﴾.
فمن أحيا الإمام الحسين وشعائره وما يحمله من قيم حسنة وجميلة وأهداف سامية، بل وما يحمله من نور، فكأنما أحيا الناس جميعاً جيلاَ بعد جيل للذين يتأثرون بهذه القيم، وتكون أرواحهم قابلة لإشراق النور. وفي المقابل كل كلمة أو عمل فيه قتل وتشويه لشخصية الإمام الحسين وطمس لذكره وشعائره، فيه قتل وظلم للناس جميعاً، وإبعادهم عن النور وعن الحق المبين.