الرسول الأعظم المدرسة الأخلاقية الكبرى 2-2
أن مكارم أخلاق النبي صلى الله عليه و آله و سلم استوعبت بفخر جميع لغات الارض و تحدث الناس عنها باعتزاز , و له في مدح الله تعالى له بها غنى عن وصف الواصفين و حديث المتحدثين , قال تعالى : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ , لقد كان صلى الله عليه و آله و سلم كما وصفه أمير المؤمنين عليه السلام : " يأكل على الأرض , و يجلس جلسة العبد , و يخصف بيده نعله , و يرقع بيده ثوبه , و يركب الحمار العاري" بهذه الخلق الكريمة الفاضلة جعل الله سبحانه و تعالى التأسي بنبيه مفتاحاً لرضاه و طريقاً إلى جنته , قال تعالى : ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾, فجعل الله عز و جل إتباع نبيه صلى الله عليه و آله و سلم و اقتفاء أثره سبباً لمحبته و وسيلة إلى رحمته عز و جل .
و هذه شذرات مقتطفة من عظيم أخلاقه :
نكران الذات : من معالي أخلاق النبي صلى الله عليه و آله و سلم نكرات الذات , فقد تنكر لكل مظهر من مظاهر العظمة , و من دلائل ذلك , وفد عليه شخص فأخذته هيبة النبي , فنهره النبي و قال له : (إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) , كما انه صلى الله عليه و آله و سلم نهى أصحابه أن يعظموه , لأن فيه علواً و شموخاً عليهم فقال لهم : (لا تطروني كما أطرت النصارى بن مريم , فإنما أنا عبد الله , فقولوا عبد الله و رسوله) .
و من معالي أخلاق النبي صلى الله عليه و آله و سلم , الحلم , فكان من أحلم الناس فلا يغضب على من أساء إليه , إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى , و من آيات حلمه إن ذا الخويصرة و هو من الجفاة جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو يقسم الأموال فقال له : يا رسول الله اعدل . فأجابه النبي صلى الله عليه و آله و سلم : (و يحك , فمن يعدل إذا لم اعدل ... لقد خبت و خسرت عن لم أكن اعدل) , فلم يقابله النبي إلا بالعفو و الإحسان .
و لما فتح الله عز و جل له مكة المكرمة عفا عنهم و قال : (اذهبوا فأنتم الطلقاء) مع ما فعلوه معه من إيذاء و إساءة , و كان ذلك من سمو أخلاقه .
أما الصبر فهو من صفاته البارزة فلقد , تلقى المحن و الكوارث من قريش فصبر محتسباً , و فجع بابنه إبراهيم , و بعمه أبو طالب و عمه الحمزة و زوجته خديجة عليهم السلام جميعاً , و عاش يتيماً و حيداً صلى الله عليه و آله و سلم , فصبر فكان آية من آيات الصبر .
و من صفات الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الرحمة و الرأفة لجميع الناس مؤمنين و كافرين , و قد عمت رحمته قريش الذين ما تركوا لوناً من ألوان الأذى و التنكيل إلا و قابلوه به , و كان يقابلهم بالعفو و الرحمة و الرأفة , و كان شديد الرحمة و الشفقة لأهله و عياله , يقول خادمه أنس بن مالك : ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم , لقد كانت الرحمة من ذاتياته صلى الله عليه و آله و سلم لجميع الناس خصوصاً المؤمنين , قال تعالى : (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) .
و كان من فضائل أخلاقه رفقه بأمته صلى الله عليه و آله و سلم , فعن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذا فقد الرجل من أخوانه ثلاثة أيام سأل عنه , فإن كان غائباً دعا له , و إن كان شاهداً زاره , و إن كان مريضاً عاده .و عن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم دخل بعض بيوته فامتلأ البيت , و دخل جرير فقعد خارج البيت , فأبصره النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأخذ ثوبه فلفه و رماه به إليه وقال : إجلس على هذا , فأخذه جرير فوضعه على وجهه و قبله . و عن سلمان الفارسي قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و هو متكئ على وسادة فالقاها إلي , ثم قال : (يا سلمان ما من مسلم دخل أخيه المسلم فيلقي له الوسادة إكراماً له إلا غفر الله له) .هكذا كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يتعامل مع أمته بكل رفق و حب .
و من معالي أخلاقه التواضع , فعن أنس بن مالك : كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يعود المريض , و يتبع الجنازة , و يجيب دعوة المملوك , و يركب الحمار .و عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يجلس على الأرض , و يأكل على الأرض ... و يجيب دعوة المملوك . و عن أنس قال خدمت النبي صلى الله عليه و آله و سلم تسع سنين فما أعلمه قال لي قط هلا فعلت كذا و كذا و لا عاب علي شيئاً قط . و روي ان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه , فإن أبى قال تقدم أمامي و أدركني في المكان الذي تريد . و ما صافح رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أحداً قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده .
و كان رسول الله صلى الله عليه و آله زاهداً في الدنيا , بعيداً عن زخارفها , فقد آثر الفقر على الغنى و الضيق على السعة , روت عائشة أم المؤمنين : " أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يمتلئ جوفه شبعاً قط , و لم يبث شكوى إلى أحد , و كانت الفاقة أحب إليه من الغنى , و إن كان يظل يلتوي جائعاً طول ليلته من الجوع , فلم يمنعه ذلك من صيام يومه , و لو شاء سأل ربه فآتاه جميع كنوز الأرض و ثمارها و رغد عيشها" و قالت : "ما شبع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ثلاثة أيام تباعاً من خبز حتى مضى إلى سبيله" و قالت : "كان فراش رسول الله الذي ينام عليه أدماً حشوه من ليف , و قد توفي و درعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله , و هو يدعو : اللهم اجعل رزق آلِ محمدٍ قوتاً" و روى ابن عباس : "كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يبيت هو و أهله الليالي المتتابعة طاوياً لا يجدون عشاء" . و دخل رجل على النبي صلى الله عليه و آله فرآه جالساً على حصير قد أثر في جسمه و وسادة من ليف أثرت في خده , فجعل الرجل يقول : ما رضى بهذا كسرى و لا قيصر , إنهم ينامون على الحرير و الديباج , و أنت على هذا الحصير , فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم : (ما أنا و الدنيا , إنما مثلها كمثل راكب مر على شجرة , و لها فيء فاستظل تحتها فلما مال الظل عنها ارتحل و تركها) .
و كان من خلق رسول الله صلى الله عليه و آله الحياء ’ فكان شديد الحياء , فقد روى أبي سعيد الخدري قائلاً : "كان رسول الله حيياً" و قال : "كان رسول الله أشد حياءً من العذراء في خدرها , و كان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه" إن الحياء من أنبل الصفات , و هو ينم عن سمو الذات و شرف النفس .
أما جوده و كرمه و سخائه صلى الله عليه و آله و سلم , يحدثنا عنه أمير المؤمنين عليه السلام في قوله : (كان رسول الله أجود الناس كفاً , و أكرمهم عشرة , من خالطه فعرفه أحبه) و قال أيضاً : (كان أجود الناس كفاً , و أجرأ الناس صدراً , و أصدق الناس لهجة , و أوفاهم ذمة , و ألينهم عريكة , و أكرمهم عشرة , من رآه بديهة هابه , و من خالطه معرفة أحبه , لم أر قبله و لا بعده مثله) .و عن ابن عباس روى عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال : (أنا أديب الله و علي أديبي , أمرني ربي بالسخاء و البر , و نهاني عن البخل و الجفاء و شيء أبغض إلى الله عز و جل من البخل و سوء الخلق و إنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل) , و عن عبد الله بن عمر قال : "ما رأيت أحداً أجود و لا أنجد و لا أشجع و لا أوضأ من رسول الله " .
و كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من أشجع الناس و أقواهم شكيمة , و يصف الإمام علي عليه السلام شجاعة الإمام علي عليه السلام بقوله : (إنا كنا إذا اشتد بنا البأس , و احمرت الحدق , اتقينا برسول الله , فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه , و لقد رأيتني يوم بدر و نحن نلوذ به , و هو أقرب منا إلى العدو , و كان من أشد الناس بأساً) و قال عليه السلام : (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم إتقينا برسول الله) , و روى العباس في شجاعة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله : لما التقى المسلمون الكفار يوم حنين و لى المسلمون مدبرين , فطفق رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يركض ببغلته نحو الكفار و أنا آخذ بلجامها أكفها أن لا تسرع . و قال عمر بن حصين : ما لقي رسول الله كتيبة إلا كان أول من يضرب . و روى انس ابن مالك : كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أشجع الناس و أحسن الناس و أجود الناس .
و من معالي أخلاق النبي صلى الله عليه و آله و سلم حبه الكبير للفقراء , فكان أباً و حصناً و ملاذاً و كهفاً لهم , و قد و جدوا في كنف مراعاته من البر و الإحسان ما لا يوصف , و كان صلى الله عليه و آله و سلم يدعوا الله تعالى أن يحشر معهم , فقد روى أبو سعيد قائلاً : سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يدعوا : (اللهم أحيني مسكيناً , و توفني مسكيناً و احشرني في زمرة المساكين) .
أما العدل فهو من معالي أخلاق النبي صلى الله عليه و آله و سلم و سمو ذاته , فقد فطر عليه و هو من أهم بنود رسالته المشرقة الهادفة إلى نشر العدالة الاجتماعية بين الناس , و كان من عدله صلى الله عليه و آله و سلم أنه لا يأخذ أحداً بذنب أحد , و لا يصدق أحداً على أحد , و قد نشر العدل بجميع رحابه و صفوف الناس , فلم يميز أحداً على أحد , و ساوى بين الجميع في الحقوق و الواجبات , و صيانة حقوق الناس و أمنهم .
و كان صلى الله عليه و آله و سلم يلاطف الناس و يمازحهم , و كثير التبسم , عن أبي الدرداء قال : كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذا حدث بحديث تبسم في حديثه . و كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يداعب الرجل يريد به أن يسره .
كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم آية من آيات الله تعالى في معالي أخلاقه التي أمتاز بها على سائر النبيين , لقد حرر النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم البشرية من براثن الانحطاط الأخلاقي , بتقديمه نموذج أمثل في معالي الأخلاق .
هذه صورة موجزة قدمنها عن مكارم أخلاق الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم التي ملك بها القلوب و العواطف , و أصبح مدرسة الأخلاق الكبرى للإنسانية و البشرية .