سيميائيّةُ علامةِ ”المَاءِ“

سيميائيّةُ علامةِ "المَاءِ "

قراءة "بورسيّة" في قصيدة (صلاة الحسين )([1]) للشاعر سعيد معتوق الشبيب

 

1.وسرنا تحاصرنا في المسيرْ
2.وموعدُ شط الفراتِ تشظى
3.فلا الماءُ ماءٌ كما نشتهيهِ
4.ورائحةُ الموتِ مبثوثةٌ
5.ضفائرُ نخلٍ تلَوِّحُ مرحى
6.وفي المهمه الوعر عصفورتان
7.وفي صفحة الرملِ بعضُ رموزٍ
8.وفي جعبة ِ الغيمِ بعضُ دخان
9.فمُ الغيب ِ تنتابهُ رعشةٌ
10.ففي محملِ الرزءِ نبضُ دعاءٍ

11.فهلْ كربلاءُ تُعدُ ظلالاً
12.وهلْ وشوشَ الغيبُ في مسمعيها
13.لترتدَّ قبل احمرار الرمالِ
14.فها نحنُ نسبقُ أنفاسنا
15.وصلنا إلى خانة الصفر عطشى
16.هناك احترفنا الأُوار وشئنا
17.فصلى وصلتْ شموسُ الضحى
18.وآلهةُ الهمج ِ المارقين
19.أماطتْ صلاةُ ابن سعدٍ لثاماً
20.فبين خسوفٍ وبين كسوفٍ
21.فأذنَ عاشرُ خلف الضباب

 

 

عيونُ الجبال ِ وخيلُ الهجيرْ
شموعاً وأغربة ً لا تطيرْ
وما في المدى أوجهٌ للأثير

تخطّفُ في رحلتيها الغدير
لقافلة الحزنِ أخرى تشير
على عشها موجةٌ من عبير

يقال لها : حفنةٌ من ضمير!
رماحٌ وألسنةٌ من سعير
إذا ما تهجى حروف المصير
تعهدَ إسكاتهُ الزمهرير

وتنسجُ متكأً من حرير ؟
وألقى عليها قميصاً بشير ؟
وومضِ وريدِ الرضيع الخطير
كما الضّوء قبل النداءِ الأخير
فأرسلَتِ الشمسُ ماءً غزير
كما شاءَ ثغرُ الحسين نصير
على نهر أدمعها المستدير

 تكشرُ عن شرها المستطير
فأدتْ صلاةُ الحسين النفير
تولّدَ يومهمُ القمطرير

وأحرمت الأرضُ خلف الأسير
 

 

 

http://shoaraa.com/space.gif

       « تُعنى السيميائيّةُ بكلِّ ما يُمكنُ اعتبارُه إشارةً »([2]) هكذا يصوغ إمبرتو إيكو تعريفًا لمصطلح " السيميائيّة" (Semiotics) ، والذي لا يُعْنَى – وفْقَ هذا التعريف - باللغةِ فحسب ، بل ينفتحُ على " كلِّ ما يُمكنُ اعتبارُه إشارةً" أو علامةً ، كالألوان والأصوات والصورة والأزياء والجَسد و غيرها ،  والجدير ذكرُه أنّ السيميائيةَ أو ما تُعرفُ "بعلم العَلامات"  تبلورتْ لتغدوَ علمًا مُستقلاًّ على يد " ش. س. بورس (peirce) " (1914م) إذ تُمثِّلُ لديه إطارًا منهجيًّا يتضمّنُ أيّ دراسةٍ أخرى ، حيثُ ليس بإمكانِهِ – كما يُصرِّحُ – دراسةُ أيِّ شيءٍ كالرياضيات والكيمياء والورق والصوتيّات إلا باعتبار ذلك علامةً سيميائيّة([3]) ، والعلامةُ - في رأي هذا الأخير  -  هي (ماثول) يُحيلُ على (موضوع) عبْرَ (مُؤوّل)([4]) ، كما يوضحه الشكل التالي:

سيميائيّةُ علامةِ المَاءِ

وتهدفُ السيمياءُ إلى استجلاء العلامةِ باعتبارها دالاً/ ماثولاً يُحيلُ على مدلولٍ /موضوعٍ عبْرَ مستوياتٍ تأويليّة ، يَصطَلحُ عيها "بورس" بـ (السيميوزيس) (semiosis) الذي يعني السيرورة التأويليّة ويمتاز بلا نهائيّة التأويل([5]) ، فكلُّ موضوعٍ يُعَدُّ ماثولاً ينفتحُ على التأويل إلى مستويات متعدّدة ، وفْقَ التصوّر التالي- ( ماثول =ث ، موضوع =ع ) -:

(ث1) – يُحيل على( ع1) – ع 1 يتحوّل إلى (ث 2) – ث 2 يُحيلُ على( ع2 )- ع 2 يتحوّل إلى (ث  3) ... وهكذا

وما دفَعَ "بورس" لصياغة هذا التصوّرِ هو : استحالةُ احتواء أيّ فعلٍ تأويليٍّ للموضوع ، وبالتّالي فإنّ ثمّةَ تعدّدًا في مستويات الدلالةِ ، حدَتْ بهِ إلى التمييز بين ثلاثة أنواعٍ([6]) في وجود المؤوّل وهي : ( المؤوّل المباشر ، والمؤوّل الديناميكيّ ، والمؤوّل النّهائيّ )

       وفي قراءتنا " السيميا تأويلية " بأبعادها الأنطولوجية سنحاول كشف اللثام عن صورة " الماء " وَتشَاكُلاتِهِ([7]) في هذه القصيدة .

 

وقبل الولوج في مستويات التأويل السيميائي البورسي ، نشير إلى ملاحظتين مهمتين:

1/ قد فرضَ علينا الإصغاءُ لهذه القصيدةِ الاستهداءَ بالمنهج السيميائي البورسي لمقاربتها .

ولذا فثمّةَ أسئلةٌ تلحُّ علينا للكشف عن كُنهها :

  • فما العلامةُ الجامعة في هذه القصيدة ؟ وما العلاماتُ الفرعيّة (المتعلّقات) التي ترجع إليها رجوعَ الفرع إلى الأصل؟
  • وما السيرورة التأويلية التي قطعتها هذه العلامة الجامعة ومتعلقاتها في هذه القصيدة لإنتاج ملامح التجربة الأنطولوجية وتحديد مرتكزاتها الجمالية ؟

 

2/ قراءة القصيدة في ضوء المنهج البورسي

أ‌-                   العلامة الجامعة : ليس من العسير على الناظر في هذه القصيدة أن يتنبَّهَ إلى العلامة الجامعة لبُناها ورؤاها  وهي (علامة الماء) وتَشاكلاتِها الفرعيّة .

 

ب‌-     متعلقات هذه العلامة الجامعة :

هذا النصُّ حافلٌ بصُوَر الماء وتشاكُلاتِهِ ، ويمكنُنا رصْدُ قائمتين متنافرتين تتضمّنانِ تلك المتعلّقات ، وهما :

·        تشاكُلات البلل ، حيث يحضر الماءُ متوزّعًا ومتنوّعًا في ثنايا النص ،  ومن ذلك :

شطّ الفُرات - فلا الماءُ ماءٌ – الغدير – موجةٌ – الغَيْم ( إذ توحي بالمطر ) – وريد ( حيثُ إنّ الدَّمَ تشاكلٌ مائيٌّ محلُّه الوريد) – احمرار الرمال ( كناية عن الدم المُراق ) – النّهر – الأدمع – الضّباب ( وهو النّدى الكثيف )
 

  • تشاكلات الجَدْبِ المُوحِي بالنقيضx  البلل ، ومن ذلك :

الهجيرْ ( إذ يوحي بالعَطش والجفاف ) - صفحة الرملِ ( للرمل رمزيّةُ الجَدبِ والظمأ ) – ظلالاً ( والظلُّ رمزٌ للرِيِّ والعطاء ) – عطشى ( والعَطش يستدعي الماء ) - الأُوار ( ومن معانيه حرّ الشمس والنار والعَطَش )

 

فما السيرورةُ الدلالية (السيميوزيس) التي قطعتها هذه العلامة الجامعة متفاعلة مع الفروع لإنتاج ملامح التجربة الأنطولوجية والأكسيولوجية ؟

ولتبيان السيرورة الدلاليّة لابدّ من استدعاء منهج "بورس" الهرمنيوطيقيّ (Hermeneutics) داخل عنْصر (المُؤوّل) للوصول إلى (الموضوع) الذي تستقرّ عِنْده هذه المُحاولة.

 

مستويات التأويل البورسية الثلاثة :

 

‌أ.       مستوى دلاليّ أوّل :شعريّة التأويل المُباشر :

 

وهو المعنى اللغوي والمعجمي والتعيينيّ للعلامة ، أي هو ما تقترحُه العلامةُ مباشرةً ، وتكونُ عناصرُ تأويلِه ما هو مُعطى داخلَ العلامةِ بشكلٍ مباشر ، ووظيفتُه الأساسية تحديد نقطة الانطلاق للدلالة ، أي إدخال العلامة في مجال السيرورة الدلالية أو السيرورة المنتجة للدلالة :

إذْ يُمكنُنا أن نستبينَ تشاكلات "الصورة المائيّة" في النصّ وفْقَ دلالاتِها الأوّليّة :

o      يبدأ النّصُّ بدلالةِ العَطشِ (الهَجير) ، ثمّ يتنقّل في رسمِ صورةِ الظمَأ على شكْلِ ماءٍ لكنّه مرّةً يأتي ( فراتًا يتشظّى) ومرّةً ( فلا الماءُ ماءٌ كما نشتهيهِ ) ، ثمّ يُسرعُ في الإشارةِ إلى ( اختطافِ الغَديرِ )

o      ثمّ في البيتين الخامس والسادسِ ترجعُ صورةُ الأمَل المائيّة على شكلِ (موجةٍ من عبير)

o      لكنّ (الزّمهرير) يُسكتُ ذلك الأمَل ، فكربلاءُ لم تَعُد ( ظلالاً) باردةً بل هي جدْبٌ وظمأ.

o      ثمّ يستحضر النصُّ (قميص يوسف)/ الأمَل وترجع بالذاكرة إلى قصّة البِئرِ وصلتها بالغَدْر ، فالماءُ لم يعُدْ ماءً بل هو موت وغدْر..

o      وفي البيت الثالث عشر تحضرُ صورة الماء الدموي ( احمرار الرمل ) ، ( وريد الرضيع) ، ليعودُ العَطَشُ صورةً مسيطرةً على النّصّ ، فالرضيعُ ذُبِحَ عَطِشًا .

o      وفي البيتِ الخامسَ عشرَ يحضر العطشُ مُصَرَّحًا به ( عَطشَى) ، إلا أنّ الشَّمسَ ترأفُ فترسلُ (ماءَها الغَزير) ، والشّاعرُ هُنا يرسُمُ (الهَجير) على شكل صورةٍ مائيّة / ( ماء الشمس) ، و تحضرُ صورة (احتراف الأُوار) في البيت السادس عشر موازيَةً لصورة ماء الشمس .

o      وفي البيت السابع عشر يبرُز البكاء بصورتِه المائيّة ( نهر أدمعها ) فهْوَ ماءٌ متجدّد ، لكنّه يُنذرُ بالألمِ وعطَش الفَقد !

o      وإذا كان النصُّ قد ابتدأ بـ(الهجير) العطش والموت، فقد اختتم بـ(الضباب) التّيْه والكارثة !

 

إنّ هذا التأويلَ هو ما اقترحتْهُ العلامةُ مُباشرَةً ، أو ما يُعرف عند نقادنا القدامى ( بالمَعْنى ) الأوّليّ للعلامة ، ولهذا المستوى الأوّل أهميّة باعتبارِهِ نقطةً أُولى لانطلاق رحلة التأويل في الدلالة ، وإدخالِها ضمن السيرورة التأويلية ، لينقلنا إلى المستوى الأعمق وهو "مستوى المؤوّل الديناميكيّ"

‌ب.   مستوى دلاليّ ثانٍ : شعريّة التأويل الديناميكيّ:

        «يؤسَّس هذا المؤوِّل على أنقاض المؤوِّل المباشر ، ولا يمكن أن يُوجد إلا من خلال وجوده»([8]) ، فما إنْ يتخلصْ منه حتى ينطلقَ نحوَ آفاقٍ جديدةٍ تضع الدلالةَ داخلَ سيرورة التأويل ، وتمثل هذه السيرورة سلسةً من الإحالات ، من دلالةٍ إلى أُخرى لا يوقفها إلا المؤوِّل النهائي كما سنرى .

   لكنَّ تلك السيرورةَ الدلالية تُحيلنا إلى قضية السؤال الأنطولوجيّ ، وهو سؤال مرتبط بمفهوم الكيان ، كيان ذلك الإنسان القَلِقِ الحائر الذي هو في موضع تسآلٍ دائم عن ماهية الوجود !

    على أنَّ التأويل الهرمنيوطيقي الأنطولوجي لا يقطع صلتَه بجمالية النص وسيميائية العلامة " المائيّة " ، بل يعقدُ صلةً وجسورًا بين الفهم التأويلي والذائقة الجمالية برؤيةٍ بورسيّة .

    ولعلَّ ذلك ما دفَعَنا لاختيار القراءةِ الأنطولوجية لنبيّن سيميائية العلامة المائيّة في قصيدة الشبيب ، وهذا يعني أنَّ هذه القصيدة تتضمنُ رؤًى على القارئ استجلاؤها من البُنى المُعلنة ليكتشف غيرَ المُعلَنِ أو كما يُعبّر عنْه الجُرجانيُّ بـ(المعْنَى) و ( معْنَى المَعْنَى)  « تعني بالمعنى: المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة ،  وبمعنى المعنى : أن تعقلَ من اللفظ معنًى ثم يُفضي بك ذلك إلى معنى آخر »([9]) ، فشعريةُ هذا النص تتحدّدُ بمدى إحساس الذات الشاعرة بموقعها في أبعاد هذا الوجود ، وإن القراءة الأنطولوجية لهذا النص تستند إلى لَحَظاتٍ شعريّةٍ ثلاثٍ ، وهي :

  1) سيميائيّة التأويل الاسترجاعي  ،       2) سيميائيّة التأويل الأنطولوجي     ،    3) سيميائيّة العَتَبة /العُنوان

 

1)   سيميائية التأويل الاسترجاعي :

     «وهي قراءة النص عودًا على بدء ، فينتظم البناءُ كلاًّ لا يتجزّأ وتتفاعل خصائصه الأسلوبية المائزة فيما نعبر عنه بـ(الأسلوب الجامع) : وهو أسلوب تتحول فيه السيرورة الدلالية – بمقتضى التأويل الاسترجاعي الذي يُمارسُ عليه - إلى سلسلة من الإحالات»([10]) مما تعكسُ تلكَ الإحالاتُ تماسكَ النصّ والتحامَ أجزائه.

     ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال توظيف الشاعر أسلوبَ التراسل بين المباني والمعاني أو ما يُعبر عنه بـالتشاكُل أو (الفيض الدلالي)  الذي يُقصد به الثراء الدلالي من ناحية والاستقطاب والإشعاع من ناحية ثانية.

سيميائيّةُ علامةِ المَاءِ

 

     ولقد أضحتْ صورة " العلامة المائيّة " عبر لفظ ( ماء ) في هذا البرنامج الوصفي محورًا استقطابيا ونواة مرجعية يُستدل بها على المعنى الذي ترجع إليه بقية المعاني في القصيدة رجوع الفرع إلى الأصل ، وهو كذلك مصدر إشعاعٍ معجمي تتوزع منه المعاني وتنتشر ، وهو – أي الشاعر - وإنْ كان قدْ صرَّحَ باسم الماء في قصيدته إلا أنه - أيضًا- استخدم تراسل المباني والمعاني/ التّشاكُل / الفيض الدلالي وذلك فيما يتجلى في التصوّر التالي:

 

 

الهَجير ( الحرارة ،العَطَش ،اليبوسة ) / الموت

صورة الفُراتِ المُتَشظِّي / الغربان / الشُّؤم

(فلا الماءُ ماءٌ ) الماء غير المُشتَهى

رائحة الموت تختطف الغَدير

صورة ماء الأمَل ( موجةٌ من عبير )

ماء الغَيم /الموت ( الدخان/رماح/سعير )

البرْد القاتل ( الزَّمْهرير) في وسط الصحراء

(الظِّلال) الموحي بالبلل( ضدّ الهَجير والظَّمأ)

(القَميص) واستحضار بِئر الغَدْر

الماء الدموي ( احمرار الرمل) (وريد الرضيع)

العَطش وصورة (ماء الشمس الغزير) /الهجير

التّلذذ بالعَطش ( احترفنا الأُوَار)

صورة ماء البُكاء ( نهر أدمعها)

صورة (الضباب) / عدم التَجَلِّي / الموت

 

 

       وعِنْد التأمّل في قوس (النُّزول) يتجلّى التدرُّجُ القَلِقُ والمُترَدِّد فمِنَ العَطشِ والنهر المُتشظِّي واختطاف الغدير إلى الأمل ثمّ تحتار الذات الشاعرةُ فينقطع الأمل بذلك الزمهرير ليحضرَ الغيب والبِئر والبحث عن القميص/البُشرَى ، لتبدو صورة الدماء واحمرار الرمل ووريد الرضيع الظامئ ، ثم يُصارحُنا العَطش وتحنان الشّمس بهجيرها المائيّ ، لكنّ الشاعر يُقاومُ ذلك الموت/العَطش ، بمكابرةٍ (احترفْنا الأوار كما شاءَ ثغرُ الحسين) ، ثم تبرزُ صورة البكاء من (نهر أدمعنا) بعيدًا عن تلك المُكابرة ، وتنتهي القصيدة لتؤذِّنَ بالحيرة والقلق خلف ذلك (الضباب)/الخفاء وعدم التجلِّي.

      وفي قوس (الصعود) تنقلنا ثِيمة (الضباب) الموحيَة بالموتِ إلى مطلع القصيدة حيْثُ يحضُر المَوتُ كالهَجير ، وبيْنَ "المَوتَيْنِ" تتوزّع تشاكلات الماء بين الأمَل واليأس ، بين الحضور والغياب ، بينَ الزّمهرير والشّمس ، بَيْنَ الحياةِ والمَوت .

 

2)   سيميائية التأويل الأنطولوجي (Ontology) الوجوديّ :

     والتأويل الأنطولوجي يهدف لأمرين : لكشف تحقق الفهم الوجوديّ لدى الذاتِ الشاعرة باعتبارها ذاتًا مؤوّلةً تنظر للكونِ من حولِها (الفَهْم)، ولكشْفِ فَهمنا لفَهْمِ الذات الشاعرة لهذا الوجود ( فَهْم الفَهْم )، وإذا كانَ الشِّعرُ هدفُه الانفعال والتأثير لا الفِكر والتوصيل ، فإنّ البَحثَ عَن دلالة تلك المشاعر والانفعالات وجوديًّا وعقليًّا أمرٌ يستسيغُه فلاسفةُ الوجود كسارتر وهيدغر وريكور ، فـ«هؤلاءِ الفلاسفةُ ينظرون إلى مشاعرنا على أنها بدورها طريقٌ نصل بواسطته إلى الحقيقةِ الفلسفية  ، فالمشاعرُ ليست نقيضًا للعقل والفكر ، وإنّما هي مصدر لاستبصاراتٍ يمكن أن تستخلص وتنقل إلى الآخرين بواسطة التفكير الفلسفي»([11]بَيْدَ أنّ الوجوديّة ليْسَتْ «فلسفةً للمشاعر ، وإنّما هي تعترف بأن للمشاعر مكانةً في النسيج الكلي للوجود البشري»([12]) ، لذا نجد في هذا ما يُبرّر لنا قراءةَ العَلامة المائيّة في نصّ الشبيب برؤيةٍ أنطولوجيّة ، باعتبارِها شعورًا حاضرًا في لاوعي الشاعر !

ولاستجلاء الفَهْم الأنطولوجيّ في هذا النصّ ، سنقف عنْد زاويتين شعريّتين : الأُولى : رمزيّة الماء وفَضاء المعنى ، والأُخرى : حلم الماءِ المُشْتَهَى

          i.            رمزيّة الماء وفَضاء المعْنى :

       يقومُ هذا النصُّ على "النظامِ الاستعاريّ" بالمفهوم الأعمّ ، أيْ إنّه يجعلُ مِن الرمزِ بوّابتَه للولوج إلى فضاء المعْنى ، ويُمثّلُ الرمزُ عنْد "بورس" علامةً أو أيقونةً يُعرّفُها بأنّها : « شيءٌ ما ينوبُ لشخصٍ ما عن شيءٍ ما بصفةٍ ما ، أيْ أنّها تخلقُ في عقْلِ ذلك الشخص علامةً معادلةٍ أو ربّما علامةً أكثرَ تطوُّرًا»([13]) ، فالرمزُ عنْده ماثولٌ أو كما يُسمّيه "مصوّرة" ، يحيْلُ على " موضوعٍ" ، عبْرَ مؤوّلٍ أو كما يُطلقُ عليهِ "مُفَسّرة" .

    وعنْد قراءتِنا لهذا النصِّ نجدُ حضورًا للرمزِ في دالّةِ "الماء" وتشاكلاتِه ، بدءًا من طَالَعِ النصِّ حيثُ يقول :

( وسرنا تحاصرنا في المسيرْ   عيونُ الجبال ِ وخيلُ الهجيرْ )

بهذا البيت تنفَتحُ القصيدةُ على عالمِ الوجودِ بقلقٍ وحَذرٍ إذ لا يُرى في هذا الكون الشاسع "المسير" سوى ( تقييد الحريّة / الرقيب / الحرّ والعطش ) ويستخدم الشاعر لتلك المفاهيمِ الرموزَ ( حِصار / عُيون / هَجير ) .

    ثمّ ينتقل الشاعرُ في رسم صورة الماء المشؤُومِ ( وموعدُ شط الفراتِ تشظى    شموعاً وأغربة ً لا تطيرْ ) ( فالتَشظّي / الشموع / الأغربة ) لها مدلولاتُها الرمزيّة ،  فالتَشظِّي يشير إلى الانكسار والتشقّق والتفرّق والفراق ، ويتأكّد ذلك الفراق بإشعال تلك الشموع الموحية بالموتِ كما تُشعل الشموع على قبر الحبيب ، لكنّها شموعٌ ترمز« إلى طهارة الشعلة الروحية الصاعدة إلى السماء »([14]) ، إلى طهارة ذلك الماءِ / المُتوَفَّى ! أمّا الغربان فهي تنذر بالشؤمِ إذ لا تفارق المكان !

    ( فلا الماءُ ماءٌ كما نشتهيهِ   وما في المدى أوجهٌ للأثير )

 وما الماءُ المُشْتَهَى ؟ حين نُفتِّشُ في النصِّ نجدُه يسكتُ عنِ الإفصاحِ عن هذا الحُلمِ ، إلاّ أنَّ "مُعجمَ الرّموزِ" يمنحنُا إجابةً ضِمنيّة ، فالماءُ لهُ ثلاث دلالاتٍ رمزيّة([15]): فهو رمزٌ للحياة ، وهو وسيلةُ طهارةٍ ، وهوَ مَرْكزُ تجدّد وانبعاث ، لكنّ الذاتَ الشاعرةَ لا ترى في تلك الدلالات حُضورًا في ماء الفُراتِ ! فهو لم يَعُدْ ماءَ الحياةِ ، ولا مركزًا للانبعاث والتجدُّدِ والأمَل ! بل هو ماءٌ/ مُتوَفَّى أُشعِلَت الشموعُ على قبرِه والغربانُ لا تفارقُ سكونَه !

    ( وفي جعبة الغيم بعض دُخان     رماحٌ وألسنةٌ من سعير ) 

وتحملُ دالّة "الغيمِ" تبايُنًا رمزيًّا ، فالغَيْمُ مصدرُ حياةٍ ، وأكثر غموضًا من الموتِ! يقول لوك بِنْوا في رمزيّة الغيم باعتبارهِ بركةً سماويّة «وعندمَا فصّلَ النّفسُ الإلهيُّ المياهَ الأوليّةَ على إمكاناتٍ لا شكليَّة عُليا وشكليّة سُفْلَى ، ظَهَرَت الغيومُ والنَّدَى والمَطَر على شكلِ برَكَاتٍ ، لأنّ الماء الذي تستقبلُه الأرضُ هو نبع الحياة»([16])  إلا أنّنا نجدُ الشاعر هنا يمتلكُ رُؤيةً تغايرُ ذلك ، فما الغَيمُ في النص ( وهو أحدُ تشاكلات الماء ) سوى صورةٍ مائيّةٍ تخبِّئُ وراءَها الموت لا البركات ، وكأنَّ الشاعرَ يستحضرُ إلياذةَ هوميروس إذ تصف الغيم/السحاب بموتٍ خفيٍّ ( سحابةُ الموتِ السّوداء قدْ أخفتْهُ ) ([17])  ، فالغَيْمُ هنا لا يرمزُ إلى الحياة بل إلى الغياب والرحيل يُخفِي وراءَه (الدخان / الرماح / السعير )  ، كما يُحيلُ هذا الغيم الدخاني السعيريّ على تشبيه شكسبير الموتَ بكونهِ ( غائمًا داكنًا ) ([18])

     (وهلْ وشوشَ الغيبُ في مسمَعيها    وألقى عليها قميصاً بشير ؟)

 والقَميصُ هو رمزٌ للبُشرَى وعَودة الأمَل ، وهنا يعودُ بذاكرتنا لذاك البِئرِ الذي يُمثِّلُ صورةَ الغَدْرِ والغَرَق والذي أُلقيَ فيهِ النبيّ يوسفَ ، وإذا كانَ يعقوبُ تنفّسَ الحياةَ في ذلك (القَميص)/البُشرَى ، فكربلاءُ المُلقَاةُ في بِئرِ الغَيْبِ لازالتْ تنتَظرُ ذلك القَميص.

    ( لترتدَّ قبل احمرار الرمالِ    وومضِ وريدِ الرضيع الخطير ) فالرّمْلُ المُحمرّ والوريد كناية عن ( الدمِ المُراق ) ، إلاّ أنّ الدمَ هنَا هو "دمٌ كذِب" يلطّخُ القميص بدلالة البيت السابق ، ويستحضر النص الآيةَ الشريفةَ ﴿ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ يوسف: 18 ، فالدَّمُ ليسَ حقيقيًّا بل هو محض وَهْمٍ يخدعُ القتلةُ به أنفسَهم ! ، إلا أنّه نذيرُ حُزنٍ لغياب الحبيبِ والغدر به !

    ( فصلى وصلتْ شموسُ الضحى   على نهر أدمعها المستدير )

 والنّهْرُ رمزٌ للتّجدُّد والجَريَانِ و كما يرى أحدُ الفلاسفةِ وهو باشلار([19]) فإنّنا «لا نستحمّ في نهرٍ مرّتيْنِ ، لأنّ قدرَ الكائن البشريّ في عمقِهِ هو الماء الجاري ، الماء حقًا هو العنصر الانتقاليّ » ؛ ذلكَ لما يمتلكُه النّهر من خاصيّة التجدّد ، وحِينَ يُذكَر النّهر يُذكر التطهيرُ والاستحمام والغَطْس و« أن يغطسَ الإنسانُ في الماء هو أن يعود إلى الينابيع»([20]) ينابيعِ الحياة ، إلاّ أنّ النّهرَ هنا هو نهر "الأدمع" الجارية غير المنقطعة ، والمُتَجَدّدة كلّ يوم والذي تغطس فيه صلاة الشّموس لعلّها تعود إلى ينابيع الحياة! حيثُ إنَّ «كل عبادة نمتْ دائمًا قرب نبع ماء» ([21]) !

    ( فأذنَ عاشرُ خلف الضباب    وأحرمت الأرضُ خلف الأسير )

ويأتي الضّباب هُنا مرادفًا للغيابِ وعدم التجلّي ، وإذا كان الغَيْمُ هو حضور الموتِ فإنّ الضّباب وهو أحد مرادفات الغَيْمِ يُوحي بمثل ذلك ، « الغيم والغطيطة والضباب مرادفات تدلّ على الالتباس والاختلاط ، لكنّها تبشّر بحدث أو تُنذرُ بكارثة»([22])

   هكذا  تتجلَّى لنا سيميائيّة الرّمز في هذا النص ، إذ يُشكّلُ الرَّمْزُ في جميع تشاكلاتِ الماءِ  لوحةً فنيّةً واحدَةً وإن تعدّدت صورها ، فهي كفُسيفساء واحدة  تتعدّد ألوانها ، ظاهرُها (ماء) وعُمقُها (العَطشُ اللامُشتَهى) والدماء والوهم والوجع !

 

       ii.            الماء الحُلُم

     يبرزُ (الخيال) في هذا النّص حُلُمًا شِعريًّا مائيًّا ، إِذ إنَّ الذاتَ الشاعرةَ في استحضارها الماء المُشتَهَى ( فلا الماءُ ماءٌ كما نشتهيهِ    وما في المدى أوجهٌ للأثير ) تعيشُ لحظة "حلم اليقظة" ، فهذا الخيال الذي يُنبِئنا عن علاقة تلك الذات بالعالم يدفعُنا إلى التأمّل في تلك العلاقة الأنطولوجيّة ، والملاحَظ في هذا النص أنّ الماءَ قد نسَجَ بتشاكُلاتِهِ المتعدّدة جميعَ خيوط الصور الشعرية فيه ، فالخيال كما يرى باشلار مولِّدٌ طبيعيٌّ للصورِ ، لذا نجدُ خيالَ الماءِ هنا يبرز مولِّدًا للصُّوَرِ والأحلام ، ويرى غاستون أيضًا أن الخيال على ضربين : الخيال المادّي والخيال الصوري ، إلا أنّه يعدّ الخيال المادّي «ملكةً تُشكِّلُ من العناصر المادية الأربعة المُتطابقة مع أربعة أَمزجة "الماء، ، والتراب، والنار ، والهواء " الصُّورَ التي تُجاوز الواقعَ وتغنيه ، ومِن ثمّ فهي ملكة فوق بشريّة »([23]) ، فالنصُّ هنا بتشكُّلِه من عُنصر "الماءِ" المادّي يحاول الانفلات من الواقعِ/ العَطشِ ، الهجير ، الدم ، الوريد ، اختطاف الغدير، نهر الدموع ، الضباب ، والعُنف، ويفرُّ منه إلى الحُلُم / الماءِ المُشتَهى الذي مِن أخلاقِه الطهر والتطهير والنقاء والصفاء والرّيّ والعُذوبة ، والشفافية .

    ففي لاشعور الشاعر وأعماقه النفسيّة تقبع صورة الماء الحُلُميّة ، مُتَشَبِّثًا بها ، فهي أكثرُ واقعيَّةً مما يراه بعينه ،  في صورة معاكسة يُسميها باشلار بـ"مُطلَق الانعكاس" ، إذ إنّ الواقعَ المَعِيشَ مجرّد وهمٍ خادع ، وإذا كانت الحياةُ لا تعدُو كونَها حُلُمًا ، فإنّ تمظهراتها لا تنفصلُ عنها ،« إنّ الانعكاس أكثرُ واقعيّةً من الواقع ، لأنّه أكثر نقاءً ، ولمّا كانت الحياة حلمًا في حلم ، فالكونُ انعكاسٌ في انعكاس ، إنّه "صورةٌ مُطلقة" »([24])

      ومن خلال "علم نفس الخيال" بتتبُّعِه للصور الشعريّة في هذا النص نكتشف (ماهيّة الحياة) في خيال الشاعرِ – كما رسمتْها صورةُ الماء– إذ إنّها لا تنفكُّ شؤمًا وموتًا و وهْمًا تتخذ أشكالاً مائيّة متعدّدة ، فهي: قارورةُ عطشٍ، وفراتٌ يتشظّى ،وغديرٌ مختَطَفٌ ،وغيمُ موتٍ أسود ، ووريدٌ ينْزف ، ونهرُ دموعٍ ، وضبابُ تيهٍ !

      فالشاعر هنا يبوح بشكواهُ من هذه الحياة المائيّة التي عناها بقوله (فلا الماءُ ماءٌ كما نشتهيهِ) ، فتتجلَّى لنا تلك الأشكال المائيّة المُوهمة بالبلل في حين أن ماءَها ما هو إلاّ موتٌ وعَطشٌ وضباب ! لنستحضر الصورة المعكوسة لتلك الأشكال أو ( الماء المُشتَهى ) / الحُلُم ، والحياة الرويّة ، والظِّلال ، ليكونَ المُتَخَيَّلُ حقيقةً وجوديَّةً يعيشُها الشاعرُ نائيًا بذاتِه عن الواقعِ / الوهم والعطش. فكما قرّر فلاسفةُ الوُجود أنّ المشاعرَ النفسيّة تُوصلُنا إلى الحقيقة الفلسفيّة ، فإنّنا من خلال الصورة المائيّة في نصّ الشبيب نصِلُ إلى حقيقةِ الوُجودِ في لا وعيِهِ وأعماقِه النفسيّة ، حيْثُ يتَجلّى الماءُ صورةً حُلُميّةً معكوسةً ، إذ يحيا الشاعرُ (ما يشتهيه) في خيالاتِهِ ، وينفر من واقعٍ (لا نشتهيه) .

      هكذا يشتهي الشاعر الشبيب "الماءَ" حُلُمًا حيث يكتسبُ عِنْدَهُ حياةً جديدةً ، تنفضُ عنها رائحةَ الموتِ واحترافَ الأُوار !

وبعْدَ أن انتهينا من (شعريّة النصِ) حيث درسنا سيميائيّة التأويل الاسترجاعي وسيميائيّة التأويل الأنطولوجي ، ننتقلُ إلى (شعريّة المناص) للبحث في سيميائيّة تأويل العَتبة النصّية ، لتعميق القراءة الأنطولوجية .

 

3)   سيميائية العتَبَة النصيّة/ العُنوان :

 

تُعَدُّ عتَبَةُ النّصِّ من موَلِّداتِ الشعريّة الحديثة ، ويأتي العنوان بوصفِهِ مفردةً من مفردات ( خطاب المقدمات ) أو ( النّصّ المُوازِي ) حيْثُ إنّ نصّيّةَ النصّ الحديث تُبْنَى من خلالِ عتباتِه المحيطة به كالعُنوانِ وجنس العَملِ الأدبيّ والإهداء والتصدير والتوقيع والهامش وغيرها مما تُعَدُّ نصًّا موازيًّا للمتن / النصِّ الداخليِّ ، حيثُ يغدو الهامشيُّ مركزيًّا !

ولم يتمّ الاهتمام بالنصّ الموازي إلا بعْدَ أَن تمّ توسيع (مفهوم النصّ) ، فلم يعُدْ مجردَ المتنِ فحسب ، بل إنّ ما يحيطُ به من اسم الكاتب والعنوان وغيرها يُعدّ خطابًا موازيًا لخطاب النصّ ، وقَدْ أفْرَدَ "جيرار جينيت" كتابًا خاصًّا أسماه بالفرنسية (seuils) عتبات ، ولهذا نجدُ رولان بارت يحتفي« بعودةِ الشعريين جاعلاً من "ج.جينيت" أحدَ أقطاب الشعريات المعاصرة ، كونَه استطاعَ الجمعَ بين ماضي الشعريات وحاضرها       »([25]) ، حيثُ حاضرُها يشهد تحوّلاتٍ ليسَ آخرَها جعلُ الهامشيّ مركزيًّا ، وعدّ ما هو خارجُ النّصّ/المتن أي المنطقة المحيطة بالنص والدائرة بفلكه نصًّا موازيًا ، حيثُ اصطلحَ عليه بـ (المناص) paratexte « أيْ ذلك النصّ الموازي لنصه الأصليّ ، فالمناصُ نصٌّ ، ولكنْ نصٌّ يوازي النص الأصليّ ، فلا يُعرفُ إلا به ومن خلالِه ، وبهذا نكونُ قد جعلنا للنص أرجلاً يمشي بها لجمهوره وقرائه قصد محاورتهم والتفاعل معهم ، وبهذا يكون جينين قد انتقل من شعرية النص إلى شعريّة المناص»([26]، ويُعدُّ "العُنوانُ" مناصًا مهمًّا لمعرفة النص والتحاور معه ، وقد وضعَ "ج.جينيت" تقسيمًا عامًّا للعناوين ، في أربعةِ أنماط([27]) :

1. عناوين أدبية مباشرة     2.عناوين مجازية         3. عناوين رمزيّة          4. عناوين تحمل أطروحة مضادة للنص

     وإنّ عنوانَ هذه القصيدة (صلاة الحسين) يحملُ دلالاتٍ رمزيّة ، فعَلَى الرغم من كونِه يوحي للوهلة الأُولى بالمعنى المباشر/الأوّلي بالفِعلِ العباديّ ، إلاّ أنّنا عنْد قراءة النصِّ بتأمّلٍ نجدُ أنّ العنوانَ رمزيٌّ يحملُ في ثناياه الريّ والماء ! ، لهذا سنحاولُ كشْفَ رمزيّة الصلاة والماء في هذا العنوان لنستطيع من خلالِهِ فَهْمَ النصّ الداخليّ .

       بدايةً حِيْنَ نُنْعِمُ النَّظَرَ في عنوان القصيدة ( صلاة الحُسين ) نجدُه ينفتحُ علَى التأويل نحويًّا ، فالعُنوانُ جملة اسميّةٌ فيها حذفٌ لأحدِ طرفيها يمكن تقديرُه ، فإمّا أنْ نُقدِّرَ المحذوفَ (المُبتدأَ) فيكون العنوانُ مُقدّرًا ( هذه صلاةُ الحسينِ ) أو ( عنوانُ قصيدتي صلاةُ الحُسينِ ) إلاّ أنّ هذا التقديرَ – وهوَ جائزٌ نحويًّا – نجدُهُ لا يتناغمُ معَ دلالاتِ الصورة المائيّة في متنِ القصيدة ، لذا فإنّنا نُقدِّرُ المحذوفَ (الخبَرَ) فيكونُ العنوانُ (صلاةُ الحُسينِ هيَ الماءُ) ، ولمْ يكنْ تقديرُنا هذا اعتباطيًّا بل يستندُ إلى ما يدعِّمُه من النصّ ، وقبْلَ إثبات ذلك حَرِيٌّ بنا أن نجيب عن التساؤل التالي : ما علاقةُ الصلاةِ بالماء؟ ، إنّ الصلاةَ هي عروجٌ روحِيّ تحمل معاني الطهارة الذاتيّة ، والماءُ مِن أخلاقِهِ الطّهرُ والتَّطهِيرُ ، ولا تكونُ صلاةٌ إلا بطهور ، وقدْ حدّثنا القُرآنُ الكريمُ عَن قصّة نبيّ الله إبراهيمَ حيثُ أسكنَ زوجته هاجر وإسماعيلَ واديًا غيرَ ذي زرع / مكّةَ لإقامةِ الصلاةِ ، فدعا إبراهيمُ ربَّهُ أن يرزقهم من الثمرات ، وهو دعاءٌ ضمنيٌ بطلبِ الماء ( إذ لا ينمو زرعٌ بلا ماء ) )رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ (إبراهيم/37  فوهبَهم اللهُ تعالى أن نبعَ بئرُ زمزمَ لهم ليكونَ سِقاءً وطُهرًا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ ، وهكذا نجدُ أنّ الصلاةَ والماءَ بينهما علاقةٌ وشيكةٌ ،  ويُشيرُ إلى تلك العلاقةِ أيضًا "لوكْ بِنْوا" حيثُ يقول إنَّ «كل عبادة نمتْ دائمًا [تكونُ]قرب نبع ماء»([28])

      وحِينَ نستنطق النصَّ نجدُه لا يختلفُ عمّا ذكرناهُ آنفًا  ، يقولُ الشبيب :

هناك احترفنا الأُوارَ وشـئنا       كما شاءَ ثغرُ الحسين نصير

فصلى وصلتْ شموسُ الضحى     على نهر أدمـعها المستدير

     هنا يحضرُ الظمأ في صورتين : (احتراف الأُوار) وهو يُشعِر بشيء من التحدِّي وعدم الاكتراث بالظمأ ، و (مشابهة ثغر الحسينu) حيْثُ إنّ لسانَهُ كما يُحدّثنا التاريخ وكتب المقاتل كانَ "كالخشبةِ اليابسة" من شدّة الظمأ ، وعلَى الرّغْمِ من حضور صورة العطش ، إلا أنّ الحسين u صلى وصلتْ شموسُ الضحى ، ولكِنْ أين كانتْ تلك الصلاة؟ ، (على نهر أدمـعها المستدير) ، حيثُ أُدِّيَت تلكَ الصلاةُ بقربِ نبعِ ماءٍ ، بَيْدَ أنّه ليس الماءَ المُشتَهى ، بل هو نهرُ دموعٍ ! ، فالصلاةُ والماءُ مقترنان .

وبعْدَ أنْ أُدّيَتْ صلاةُ الحسين بقربِ نبعِ الدموع : 

أماطتْ صلاةُ ابن سعدٍ لثاماً      فأدتْ صلاةُ الحسين النفير

     وهنا تبدو صلاتان : صلاة ابن سعد ، وصلاة الحُسينu  ، لكنّ الأُولَى تُميطُ اللثامَ كنايةً عَن الإعراضِ والرحيل ، إنّها صلاةٌ لكنّها ليسَت مُقبلةً على ماءِ طهارتِها ، بل هي مُشمَئزّةٌ ومُعرضة ونافرة ، وإماطة اللثام هنا تُوحي بالغياب والضمور ! في قبال الحضور والتحدّي/ النفير الذي نادتْ بهِ وأعلنتْه صلاة الحسين ، وحيْن دوّى ذلك النّداء :

فأذّنَ عاشرُ خلفَ الضبابِ       وأحرمت الأرضُ خلفَ الأسيرْ

     فالأذانُ خلفَ ماءِ الضباب المُعتِم ( لتحضرَ الصلاةُ هنا متلازمةً مع الماء ) لكنّه ليسَ ذلك الماءَ المشتهى أيضًا ، بل هو ماءٌ يُنذرُ بالكارثة ! ، إنّ صلاة الحسين u هيَ عرُوجُهُ نحوَ السّماء ، هيَ ماءٌ يسقي السّماءَ ، كما تسقي السماءُ الأرضَ ،  عندها يؤذّنُ عاشرٌ خلفَ عتمة الضباب فما إنْ ينكشف ذلك الضبابُ إلاّ والأرضُ تُحرمُ خلْفَ الأسيرِ الظامئ ، إنّها رحلةُ العطشِ أو الماءِ اللامُشتَهَى .

    إنّ ( صلاةَ الحُسين ) هيَ الماءُ المُشتَهَى ، حيثُ تنغمسُ الرّوحُ في الصلاةِ تطهُّرًا ، كما يغطس الجسدُ في الماءِ و« أن يغطسَ الإنسانُ في الماء هو أن يعود إلى الينابيع»([29]) ، والعَودَةُ إلى الينابيعِ هيَ عودةٌ إلى الحياة والوجودِ المُتخيَّل ، وهكذا هي الصلاةُ عودةٌ إلى ينابيع الحياة الصافيةِ والرقراقةِ ، فالصلاةُ دائمًا تكونُ قربَ نبعِ ماء .

     إنّ عنوانَ القصيدة (صلاة الحسين) يختزلُ إيحاءاتِ العلامة المائيّة ، ولذا نجدُ أَنَّ النصّ متماسكٌ في بُناهُ ورُؤاهُ ، وإذا كانَ العُنوانُ /المناصُ هو العَتبة التي من خلالهِا ندخلُ إلى النص الداخليّ ، فإنّ صياغةَ العُنوانِ بالنسبة إلى المؤلّفِ تأتي في المرتبة الأخيرةِ بعْدَ الانتهاء من غزلِ ثوب النصّ واستحكامِهِ ، لذا فإنّ العُنوانَ يختزلُ القوّة المتخيّلةَ في النصّ ، ومن هُنا تأتي أهميّة البحث في شعريّة العتبات.

وبَعْدَ هذه الرحلةِ التأويليّة لابُدّ من الاستقرار عِنْدَ خانةٍ تأويليّة نهائيّة ، لننتقلَ إلى المستوى الثالث من مستويات التأويل البورسيّة

 

 

‌ج.    مستوى دلاليّ ثالث: شعريّة التأويل النهائي :

 

    وهو ليس مستقلا عن حركية التأويل الدينامي لأنه يقترح على الذات المؤولة خانة تأويلية تستقر عندها هذه القراءة التأويلية . حيثُ وجدْنا أنّ هذا النّصّ تتجلّى فيه "الصورة المائيّة" معكوسةً ، فالماءُ الحاضرُ في النصِّ هو ماءُ العَطشِ والهجير والدم والبُكاء والضباب وماء الشمس الحارق ، وهذا الماءُ الحاضرُ/الواقعُ هو ( اللا مُشتَهى)/ أو الوَهم ، ليغدو المُتخيَّلُ هو الحلُم والماءَ المُشتَهى ، فالوُجودُ والحياةُ مجرّدُ وهمٍ ، أمّا (اللا موجود ) إلاّ في القوّة المُتخيَّلَةِ فهوَ الواقعُ الخيالي الذي يشتهيه الشاعر !

 

ويجدر بنا بعد تلك الرحلة البُورسيّة في استكناهِ العلامة المائيّة ودلالاتِها ، نُشيرُ إلى أهمّ الوظائفِ السيميائيّة المُتمثّلة في هذا النصّ ، ومنْ أهمّها :

  • أوّلاً : "الوظيفة البنائيّة" ، فَعِنْد القراءة المتمعّنة بآليّةٍ سيميائية يبرزُ النصُّ ذا بنيةٍ متماسكةٍ مكوّنًا لوحةً مائيّةً واحدةً ، فالعلامات الفرعيّة للماءِ ربَطتْ أجزاء النصّ بعضها ببعض لتبدو كأنّها قطعةٌ مائيّةٌ فريدة. فعلامةُ الماءِ تمثّل المركّز (الاستقطاب) للعلامات الفرعيّة (الإشعاع) ، حيث تعود الفروع إلى الأصل مكوّنةً بذلكَ نسيجًا بنائيًّا واحدًا.
  • ثانيًا :"الوظيفة الجماليّة" ، حيْثُ النّصُّ مبنيٌّ بلغةٍ عُليَا ، تتجلى فيها الانزياحاتُ الاستبداليّة : مثل محاصرة عيون الجبال ، ورائحة الموت ، وضفائر النخل ، و وشوشة الغيب ، ونهر الشموس الباكية ، والشمس تُرسلُ ماءَها . ممّا تجعلُ النصَّ ذا لغةٍ ساميةٍ ، فالانزياحُ يُضفِي على النّصِّ شعريّتَه ، ويجعلُه منفتحًا على التأويل وذا دلالاتٍ متعدّدة ، حيثُ « يُجمع النقاد البنيائيّون على أنّ أهمّ العناصر الخاصة بالقول الجماليّ هو أنّه [بالانزياح] يكسر نظام الإمكانات اللغويّة الذي يهدف إلى نقل المعاني العاديّة، ويهدف هذا الكسر بالذات إلى زيادة عدد الدلالات الممكنة »([30])   
  • وأخيرًا : "الوظيفة الأنطولوجيّة" حيثُ لاحظْنَا كيْفَ رسَم الشبيبُ مفهومَه للوُجودِ ، وفْقَ قانون "مطلَق الانعكاس" – كما يُسمّيه باشلار- فيغدو فيهِ المُتَخيَّلُ أكثرَ واقعيّةً من الواقعِ ، فالوُجودُ المرئيُّ ما هو إلاّ محض وَهْمٍ ، لينقلَنا الشاعرُ إلى عالمِهِ الحقيقيّ (الماء المُشتَهى / صلاة الحُسين ) برمزيّة العلامة المائيّة ، حيثُ يكونُ الغيابُ/الخيالُ شُهودًا/واقعًا . وهذا ما يُمكنُ أن نُطلقَ عليه في هذا النصّ .
الهامش والمصادر :
[1]- سعيد الشبيب ، ديوان ( زهرة الفردوس) ، د.دار نشر ، ط1 ، 2008م ، ص 53-54
وللمؤلّف ديوانان آخران مطبوعان : ( أملٌ عند مصبِّ النهر ) نشر أطياف – السعودية ،2008م ، و ( جنى الجنّتين) نشر دار الجزيرة – بيروت ، 2011م.
[2]- دانيال تشاندلر ، ( أسس السيميائيّة ) ، ت : طلال وهبة ، المنظمة العربية للترجمة – بيروت ، ط1 ، 2008 م ، ص 28
-[3] منذر عياشي ، ( العلاماتية وعلم النص ) ، المركز الثقافي العربي – المغرب ، ط1 ، 2004م ، ص 15
[4]- سعيد بنكراد ، ( السيميائيات والتأويل ) ، المركز الثقافي العربي – المغرب ، ط1 ، 2005 م ، ص 74
[5]- فيصل الأحمر ، ( معجم السيميائيّات ) ، مشورات الاختلاف – الجزائر ، ط1 ، 2010 ، ص 194
[6]- ( السيميائيات والتأويل ) ، ص ص 93 - 105
[7]- نعني بِمصطلح ( التشاكل ) ، التنوّع الدلالي وتوزّعهِ في النصّ في صورٍ شتّى ، ونحيل القارئَ على مقالةِ ( مفاهيم التشاكل (Isotopie) في السيميائيات المعاصرة ) لوغليسي يوسف ، ضمن ( محاضرات الملتقى الرابع ، السيمياء والنص الأدبي ) جامعة محمد خيضر بسكرة – الجزائر ، نوفمبر 2006م
-[8] عامر الحلواني، ( شعريّة المعلّقة ) ، كليّة الآداب- صفاقس ، ط1 ،2007م، ص 64
[9]- عبدالقاهر الجرجاني ، ( دلائل الإعجاز ) ، تعليق محمد رشيد رضا ، ط1، 1415هـ ، ، ص 177
-[10] (شعرية المعلقة ) ، ص 66
[11]- جون ماكوري ، ( الوجوديّة) ، ت: إمام عبدالفتاح إمام ، سلسلة عالم المعرفة – الكويت ، العدد 58 ، 1982م ، ص172
[12]- السابق ، ص 173
[13]- حسن ناظم ، (مفاهيم الشعريّة ) ، المركز الثقافي العربي – بيروت ، ط1 ، 1994م ، ص ص 61-62
[14]- خليل أحمد خليل ، ( معجم الرموز) ، دار الفكر – بيروت ، ط1 ، 1995 ، ص 100
[15]- السابق ، ص 154
[16]- لوك بِنْوَا ، ( إشارات ، رموز وأساطير ) ،ت : فايز كم نقش ، دار عويدات للنشر – بيروت ، ط1 ، 2001م ، ص 58
[17]- A Dictionary of Literary Symbols) , Cambridge University Press , 1999 , p44) Michael Ferber,
[18]- السابق ، ن ص
[19]- غاستون باشلار ، ( الماء والأحلام ) ، ت : علي نجيب إبراهيم ، المنظمة العربية للترجمة – بيروت ، ط1 ، 2007م ، ص20
[20]- ( إشارات ، رموز وأساطير ) ، ص 58
[21]- السابق ، ن ص
[22]- ( معجم الرموز) ، ص 105
[23]- ( الماء والأحلام ) ، ص 278
[24]- السابق ، ص 78
[25]- عبدالحق بلعابد ، ( عتبات ، ج.جينيت من النصّ إلى المناص) ، منشورات الاختلاف- الجزائر ، ط1، 2008م ، ص 25
[26]- السابق ، ص 28
[27]- السابق ، ص ص 79-80
[28]- ( إشارات ، رموز وأساطير ) ، ص 58
[29]- السابق ، ن ص
[30]- صلاح فضل ، ( نظريّة البنائيّة في النقد الأدبيّ ) ، دار الشروق – مصر ، ط1 ، 1998م ، ص 251
شاعر