في تجديد الفكر الديني «5»
تتجه بعض دعوات تجديد الفكر الديني إلى التوسل بأدوات نظرية التأويل أو فهم الفهم أو ما يعرف بالهرمنيوطيقا الفلسفية من أجل إنتاج فهم جديد للدين. لا يمكن في هذا المقال بسط الحديث عن الهرمنيوطيقا وتطورها التاريخي، ويمكن لمن أراد التوسع الرجوع إلى المصادر العربية والأجنبية التي خصصت لذلك، مثل كتاب «فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر» للدكتور عادل مصطفى.
يذكر في الصفحة 66 و67 من هذا الكتاب أن كلمة الهرمنيوطيقا كانت تشير إلى علم التأويل وبخاصة مبادئ التفسير النصي القويم؛ غير أن حقل الهرمنيوطيقا قد تم تأويله «بترتيب زمني تقريبا» إلى:
نظرية تفسير الكتاب المقدس. «التأويل الإنجيلي».
ميثودولوجيا «منهج» فقه اللغة العام. «التأويل الفقهي اللغوي».
علم كل فهم لغوي. «التأويل العلمي»
الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية «الروحية». «التأويل الإنساني».
فينومينولوجيا «ظاهرة» الوجود والفهم الوجودي. «التأويل الوجودي»
أنساق التأويل «سواء الاستجماعي أو التحطيمي» التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى المعنى القابع وراء الأساطير والرموز. «التأويل الثقافي».
إذن هناك هرمنيوطيقيات، وليست هرمنيوطيقا واحدة. هذه نقطة هامة ينبغي التنبه لها. وما سنركز عليه هو ما يتعلق من الهرمنيوطيقا الفلسفية بفهم النصوص الدينية وبعض مقولاتها المتمثلة في:
معنى النص يتشكل بحسب المتلقي له، فهو وليد تفاعل الأفق المعرفي للمفسر، بما فيه من قبليات ومسبقات وخلفيات فكرية ونفسية وقناعات وغيرها، مع النص.
إن الفهم الموضوعي أو المحايد للنص غير متيسر أبدا، بل غير مطلوب. فكل فهم هو في ذاته صحيح. والقراءات المختلفة وربما المتباينة للنص في عملية مستمرة، وليس بينها قراءة خاطئة، ولا يوجد فهم نهائي ثابت لا يتغير.
ليست مهمة المفسر البحث عن مراد صاحب النص. فبعد أن يوجد النص لا علاقة للمفسر بما يريده مؤلف النص أو مكونه منه، فالمفسر هو من يمنح النص معنى أو معاني، بغض النظر عن مرادات منشئه. وهذا ما أطلق عليه «موت المؤلف».
إن خلاصة هذه المقولات تدور حول ما ذكرناه في المقال السابق من عدم وجود فهم مطلق للنصوص بشكل عام، ومنها النصوص الدينية، وأن كل الأفهام والتفسيرات والتأويلات نسبية.
من البديهيات التي يجمع عليها العقلاء قصدية المتكلم. فكل متكلم بصرف النظر عن أداة بيانه يقصد إلى إيصال رسالة معينة، وبالتالي فإننا في حالات التخاطب والاتصال نبحث دائما عن مقصود الآخر، ونحاول التأكد من فهمنا لمراده. ولا يخرج النص الديني بطبيعة الحال عن ذلك. فكما يبحث العالم الطبيعي عن الحقائق الموضوعية في كتاب التكوين، كذلك العالم الديني يحاول الوصول إلى الحقائق في كتاب التدوين.
أمر آخر نلاحظه في النصوص العلمية والقانونية التشريعية وهو وجود مقدار كبير من الفهم المشترك بين المختصين فيها برغم اختلاف قبلياتهم ومسبقاتهم. ولولا وجود هذا المشترك لما كان لكتابة الدساتير والأنظمة والقوانين والمصنفات العلمية أي معنى.
أمر ثالث ينبغي ملاحظته في نشأة الهرمنيوطيقا الغربية ذاتها، إذ إنها كانت تهدف أساسا لتأويل نصوص الإنجيل أو الأناجيل، وهي نصوص بشرية كما هو معلوم. بينما النص القرآني كما نعتقد نحن المسلمين نص وحياني إلهي معصوم «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ». وعدم ملاحظة هذا الفرق في تطبيق الهرمنيوطيقا يستتبع نتائج غير دقيقة كما لا يخفى.
نعم، لا ينبغي إنكار أهمية الهرمينيوطيقا في كشف خلفيات النصوص المفسِّرة والأنساق المضمرة فيها، مما يعين أكثر على تحديد الأدوات المستخدمة في فهم النص ومدى موضوعيتها، ويفيد كثيرا في فهم الفهم ونقده.