ليلة القدر .. موعد اللقاء
ليلة خير من ألف شهر، إنها ليلة اللقاء الأعظم، ليلة الأنس بمبدأ الوجود، إنها ليلة قوس الصعود والعودة الى المنعم، فهل نوفق لهذا اللقاء، ويفتح لنا باب الدخول لحضيرة القدس، أو نكون من المحرومين الذين حرمتهم خصالهم.
«إِلهِي وَقَفَ السَّائِلُونَ بِبابِكَ، وَلاذَ الفُقَراءُ بِجَنابِكَ وَوَقَفَتْ سَفِينَةُ المَساكِينِ عَلى ساحِلِ بَحْرِ جُودِكَ وَكَرَمِكَ يَرْجُونَ الجَوازَ إِلى ساحَةِ رَحْمَتِكَ وَنِعْمَتِكَ».
لقد دعانا الله في هذا الشهر للقاءه، واسبغ علينا نعمه ورحمته وعفوه لكي نوفق لهذا اللقاء، ونخلص له، وحبس عنا الشياطين والمردة لكي نتوجه إليه. فهل نوفق في التوجه لهذا المحضر المقدس ونهتدي السبيل اليه، أم تخدعنا أنفسنا بسفاهة عقولنا فنتوجه للدنيا وملذاتها «قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ».
أو أن تكون عباداتنا وصيامنا وقيامنا وصدقاتنا هي من اجل حب الجاه والرياء فتذهب أدراج الرياح، فيكون دعائنا لمن لا يستجيب لنا إلى يوم القيامة، غافلين عن المعبود الحقيقي، «ويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون». فقد تكون كل حياة الانسان وعباداته في الدنيا غير مقبولة، لأنه ساهي عن عبادته أو عن معبوده، ومتوجه في عباداته لأصنام الدنيا متقربا بها إليهم.
أو أن تكون عباداتنا من أجل الثواب، أو خوفاً من العقاب، فيكون نصيبنا منها ذلك، وما أملنا منها. غافلين أيضاً عن المعبود وقربه وحقيقة الإخلاص له.
فهناك عبادة الأجراء، الذين يعبدون الله من أجل الأجر، دعاء، وصلاة، وقيام، وصيام من أجل الأجر والمقابل. وهذا حظهم من العبادة «هو بعض الأجر المحدود» بقدر أعمالهم «وما قدر أعمالنا في جنب نعمك». إن ذلك الأجر مهما عظم فهو محدود، لأن أعمالنا ناقصة ومعيبة في مقاصدها، فهي قد لا تكون مقبولة في ساحة القدس، والذي لا يقبل في ساحة القدس فأجره محدود. وحتى لو كانت سليمة وصحيحة فما قيمة أعمالنا في جنب نعمك، فكل أعمالنا لا تكافئ شكر نعمة واحدة من نعمه عز وجل، «فكيف لي بتحصيل الشكر، وشكري إياك يفتقر إلى شكر».
وهناك عبادة العبيد، الذين يعبدون الله خوفاً من العقاب ومن العذاب، وهذا حظهم من العبادة أن يكفيهم الله غضبه ونقماته بفضله ومنه لا باستحقاق منهم.
وهناك عبادة المحبين المخلصين، الذين استخلصهم الله لحبه واصطفاهم للقاءه، فهم يعملون حبا له، وتقربا اليه رغبة في لقاءه في محضر القدس. إن أعمال المخلصين والمحبين إذا كانت مقبولة في ساحة القدس، فمهما كانت صغيرة في ظاهرها فإنه لا يمكن إدراك عظم أجرها، لأن أجرها على الله، إن الله هو الشكور الحميد.
أن حالة الصيام للمحبين، هي الوقوف باب القدس عطشى، وجوعا، صامتين عن اللغو، محرمين عن ملذات الدنيا، ملتفتين عنها، منشغلين عن زخرفها وخدعها، مقبلين على ذكر الله وتسبيحه وتنزيهه، متوجهين إلى نور السماوات والارض، عله يسمح لهم بالدخول إلى ساحة اللقاء.
قد زاد شوقهم الى بارئهم فخضعوا ببابه متذللين، واعترفوا بذنوبهم وتقصيرهم فأتوا إليه تائبين قانتين، طائفين بأرواحهم حول بيته الحرام «يرجون الجواز إلى ساحة رحمتك ونعمتك»، حتى تصل أرواحهم إلى معدن العظمة، ببصيرة القلوب، وتصل أرواحهم إلى سدرة المنتهى وشجرة الخلود الأبدي، معلقة بعز القدس.
فهذه الأرواح قد وصلت إلى الفناء قبل الفناء، فلا يختلف عندهم الموت عن الحياة، فقد وصلوا إلى غايتهم ونهاية مبتغاهم، وكما في كلام امير المؤمنين علي «موتوا قبل أن تموتوا».
إنه الباب الوحيد الذي يقصدونه دون الأبواب، فلا باب لهم غيره «من لي غيرك»، ولا دار تأويهم غير ساحة الأنس وساحة اللقاء. وأي شقاء قد يصيبهم إن لم يسمح لهم بالعبور، ولم يكن لهم نصيبا في الدخول، وأوصد الباب. فيهيمون على وجوههم في بلاء لا متناهي، وشقاء أبدي « آه.. من نار تُنضج الأكباد والكلى. آه.. من نار نزاعة للشوى. آه.. من غمرة من لهبات لظى».