الخطاب الأخير.. للإمام الحسين (ع)
لماذا استغاث الإمام الحسين بالناس
قد يستغرب البعض بأنه لماذا استغاث الإمام الحسين رغم إنه يعلم باستشهاده، وأنه قد لا يدركه ناصر في كربلاء بعد استشهاد جميع أولاده وأصحابه. لماذا لم يكتفي بالاستغاثة بالله عز وجل كحال الأنبياء والرسل. وبدلاً من أن يسئل الله عز وجل أن ينزل البلاء بأعدائه، اكتفى بنصيحتهم، ومن ثمّ قتالهم وحيداً فريدا. وبدلاً من أن يسأل الله عز وجل أن يخلصه كما خلص إبراهيم من النار، نجده لا يكتفي بتقديم أولاده قرابين بين يديه، بل ويقدم نفسه قبلةً للجموع وسيوفهم، وصدره مرمى للسهام، ونحره للفداء.
إن من يشهد هذه الروح العالية للفداء والتضحية عند الإمام الحسين ، قد يستغرب استغاثته وطلبه للنصرة في آخر ساعاته. وما عسى أن تكون النصرة في قبال جيش ليس له عدد.
لا محدودية الخطاب
إن النداء والخطاب الأخير للإمام الحسين ، وهو في كربلاء، وقد أحاط به الأعداء من كل جانب «ألا من ناصرٍ ينصرنا لوجه الله، ألا من ذاب يذب عن حرم رسول الله»، إن هذا الخطاب ليس محدوداً بزمن معين، ولا محدوداً بمكان معين، فهو لم يكن فقط لمن كانوا في كربلاء وفي ظهر يوم عاشوراء، بل إن استغاثة الإمام الحسين موجهة لجميع الناس وللبشرية جمعاء، وللعالم عبر العصور. وهو موجه للرجال والنساء، للشباب والشابات، للأطفال والكبار، وحتى للذراري في الأصلاب. فما حكمة هذا النداء؟ ولماذا أطلقه الإمام الحسين في الساعات الأخيرة قبل استشهاده؟
إن نداء الإمام الحسين في عاشوراء، هو كنداء إبراهيم الخليل للناس بالحج، وكما أن إبراهيم كان وحيداً بين جبال مكه، فإن الإمام الحسين كان وحيداً بين جموع الأعداء الذين أرادوا قتله.
النداء الأخير.. إستمرارية للقضية
إن هذا الخطاب الأخير هو الذي جعل من حركة الإمام الحسين الأكثر حيويه واستمراريه على مدى التاريخ. وجعل منها معركة مفتوحة يشارك فيها من يشاء، بقدر استطاعته. بل وجعل شخصية الإمام الحسين اكثر شخصية تفاعلية ومؤثرة ومغيره على مستوى التاريخ البشري. فهي أكثر شخصية تأثيراً على مختلف القوميات والشعوب مهما اختلفت أديانهم وألوانهم. وإذا كان تأثير بعض الشخصيات المغيره يذبل ويخبو مع الزمن، فإن حيوية وتأثير شخصية الإمام الحسين هو الأكثر استمرارية عبر الزمن، فهو لا يخمد ولا يخبو ولا يزداد الا إشراقاً وتوهجاً وظهوراً، ولا تزداد دائرة التأثير إلا اتساعاً، وقضيته إلا انتشاراً.
إن هذا النداء الحسيني هو الذي يجعل جموع الجماهير الغفيره تقصد لزيارته من معظم دول العالم، ومن مختلف الأديان والقوميات، يقصده المسلم والمسيحي، والصابئي، والبوذي، بكل طوائفهم وألوانهم، وكل من له روح ووجدان وضمير قابل لإشراق النور. فنداء الإمام الحسين كان مفتوحاً لكل من يسمع النداء، ويسمع بواعيته، ولذلك فإن الاستجابة للإمام الحسين لا تخص المسلمين دون غيرهم من الأديان، ولا تخص الشيعة دون غيرهم من المذاهب، فهو نداء مفتوح وعام للناس كافة.
المسؤولية في الإستجابة لنداء الإمام الحسين :
إن هذا النداء جعل معركة كربلاء مفتوحة، وقضية الإمام الحسين مستمرة حتى بعد استشهاده. ولقد حمّل الإمام الحسين البشرية مسؤولية نصرته بعد هذا النداء والإستغاثة. وكما شرّع إبراهيم الخليل زيارة بيت الله على كل الناس، كذلك الإمام الحسين شرّع العمل على نصرته على الناس كافة. وإذا كان الإمام أخذ الرجال والنساء، والشباب والأطفال كأنصار له، فهذا يعني أن لا عذر في وجوب النصرة على الجميع.
فعندما نعلم بأن الإمام الحسين طلب النصرة، فإن الاستجابة لهذا النداء تصبح واجبة ولو بعد آلاف السنين. فالإمام الحسين كان مظلوماً في كربلاء. وإن إجابة المظلوم واجب شرعي وعقلي ووجداني. وإن نصرة المظلوم ليس فقط في حياته، بل إن نصرته تكون حتى بعد استشهاده وموته عن طريق نصرة القيم النبيلة التي قاتل من أجلها، وإحياء قضيته، وإظهار حقه ومظلوميته. وإذا كانت هناك أصوات تخطئ الإمام في خروجه، وتشكك في مصداقية القضية التي حملها. فإن إظهار مشروعية حركة الإمام الحسين وأهدافها وأبعادها هو من نصرة المظلوم. ولقد أظهر القرآن الكريم مظلومية أصحاب الأخدود، وأحقية قضيتهم، حتى بعد استشهادهم «قتل أصحاب الأخدود». ولولا أن أظهر القرآن قضيتهم لظنّ الناس أنهم شرذمة فاسقون، وخارجون عن القانون.
إصلاح القيم.. البعد الأكبر لمعركة كربلاء
إن حقيقة المعركة التي قام بها الإمام الحسين في كربلاء هي معركة إصلاح القيم الإنسانية، قبل أن تكون معركة عسكرية. فلم يكن الإمام الحسين طامعاً في الانتصار عسكرياً مع التفوق العددي لأعدائه. ولم يكن الإمام يطمح في حكم العراق، بعد إدراكه بخذلان الأمة وخذلان الكوفيين له، وقلّة من خرج معه من مكة. وإذا لم يعوّل الإمام الحسين على الإنتصار عسكرياً، فلماذا خاض المعركة. بل إن الإمام صرّح باستشهاده قبل خروجه من مكة. كما أنه أخبر أصحابه باستشهادهم جميعاً ليلة عاشوراء.
إذأً لماذا خاض الإمام المعركة مع علمه باستشهاده وأصحابه؟
من الواضح أن معركة الإمام لم تكن للإنتصار العسكري، بل كانت معركة لإصلاح القيم الإنسانية. فجيش الإمام الحسين كان يمثل أعلى قيم الإيثار والإيمان والفداء والصدق والإخلاص والعبودية لله. في قبال المعسكر الآخر الذي كان يمثل الإثم والعدوان والبغي والظلم من أجل المصالح المادية. بل إن جميع حركات الأنبياء والرسل عى مدى التاريخ البشري، هي إصلاح القيم الفاسدة واستبدالها بالقيم الصحيحة.
وهذا يوضح أن البعد الحقيقي والجوهري لمعركة كربلاء هو الصراع بين القيم الصالحة والقيم الفاسدة. وأن حركة الإمام هي لإصلاح القيم في قلوب الناس. وفي حديث عن الرسول الأعظم بعد أن رجع من إجدى غزواته «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، والمقصود هو جهاد النفس وجهاد إصلاح القيم الإنسانية.
البشرية وفساد القيم
لقد أجازت محكمة مدنية في أسبانية «البهيمية» قبل أسبوع، ويعني ذلك إجازة العلاقة بين الإنسان والحيوان. يأتي هذا القرار بعد أن أجازت الكثير من الدول الغربية علاقة المثلية. ومن جهة أخرى في الشرق، دعا برفسور ياباني في علم الرياضيات إلى قتل وإبادة جميع كبار السن لأنهم يشكلون عالة وعبئ إقتصادي على البلاد.
مثل هذه الدعوات إنما تدل على مدى فساد القيم في الشرق والغرب، وتخبط البشرية ووصولها الى المادية والنفعية البحتة. أي بمعنى أن ما يعود على الإنسان بالمصلحة المادية واللذة الحسية والآنية، فهو له القيمة الحسنة، والعكس بالعكس. وإذا كانت النفعية هي ملاك الحسن والقبح في الأعمال، فعندها لن يتورع الإنسان من جميع الأفعال القبيحة من كذب أو قتل أو سرقة أو غيرها، إذا كانت تعود عليه بالمصلحة.
عندما تفقد البشرية المرجعية لتحديد القيم الصالحة والحفاظ عليها، ورفض القيم الفاسدة والنهي عنها، فإن البشرية تؤول إلى التخبط في الجاهلية الحديثة، لتعيش أوج الصراع والتنافس المادي بدون أي نزاهة أو رحمة. تسحق فيها الطبقات القوية لأي طبقة أو جهة ضعيفة.
إن معركة القيم هي المعركة الأساسية التي خاض فيها جميع الأنبياء والرسل والمصلحين حروبهم. فلقد كانوا يدعون البشرية إلى تعزيز القيم الإنسانية الصحيحة، ورفض قيم الفساد والبغي. وكذلك فإن البعد الأكبر لمعركة الإمام الحسين في كربلاء هو إصلاح القيم. وإنما دعوته للنصرة في خطابة الأخير، فإنه يضع هذه المسؤولية على عاتق جميع الناس. فالكل مسؤول على الحفاظ على القيم الصحيحة وتعزيزها. وإصلاح قيم الفساد ورفضها.
حقيقة إصلاح الإنسان والأمم.. بصلاح القيم
إن ما يميز الإنسان الصالح عن الآخر السيء هو ما يحمله كل منهما من قيم في صدره، والتي تنعكس على أعماله ومجمل حياته. فالكذب والغش وأكل أموال الناس بالباطل كلها تدلّ على القيم الفاسدة التي يحملها الإنسان في صدره. وفي المقابل فإن الكرم والإيثار وإيتاء الفقراء والمساكين والصدق كلها تدل على القيم الصالحة.
وقس على ذلك الأمم والشعوب. فعند انتشار القيم الفاسدة كالتطفيف، أو البغي والبطش والعداوة، فإن أنبياء الله كانوا يعملون على إصلاح هذه القيم الفاسدة بغيرها صالحة. وإذا ما امتنعت الشعوب عن إصلاح القيم، فإن نزول البلاء الإلهي أمر حتمي للقضاء على هذه القيم الفاسدة. وحتى لو لم ينزل العذاب الإلهي، فإن الحياة في بيئة تسودها القيم السيئة أشبه للحياة في بيئة تملأوها الأشواك، والحيوانات المفترسة. لا يشعر الإنسان فيها بأي راحة أو استقرار.
إن الذين عقروا ناقة صالح تسعة أشخاص، ولكن العذاب نزل بقوم ثمود أجمعين باستثناء المؤمنين الذين خرجوا مع النبي. قد يتسائل البعض أنه لماذا نزل العذاب بكل قوم ثمود، بينما الذين عقروا الناقة تسعة أشخاص فقط. فأين العدل الإلهي. إن حقيقة العذاب الإلهي يعم ليس فقط الذين قاموا بجريمة عقر الناقة، بل كلّ الذين أيدوا هذا العمل، ويحملون نفس القيم الفاسدة التي نتج عنها هذا العمل. فالعذاب ينزل ليس فقط على الذين عملوا السوء، بل أيضاً على البيئة الحاضنة والمؤيدة لهذه الأعمال الفاسدة. وعندما ينتشر الإرهاب والبغي في منطقة ما، فإن نزول بلاء الزلزلة والدمار يعم البيئة الحاضنة والداعمة للإرهاب.
إن العذاب الإلهي عندما ينزل فإن من نتائجه هو القضاء على البيئة الحاضنة للقيم الفاسدة، وهو ما يحيد الكثير من انتشارها وانتصارها واستمراريتها، ويدفع الناس إلى التوبة والإبتعاد عن قيم الفساد والبغي، «ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون».