العفو الملكي المنتظر!
يشهد المجتمع الشيعي في المملكة هذه الأيام اجماعا ”سياسيا“ نادرا ولافتا يتمحور حول طلب العفو عن سبعة من المحكومين بالإعدام. فقد أطبق المواطنون الشيعة في المنطقة الشرقية على مناشدة عاهل البلاد الملك سلمان بن عبدالعزيز العفو عن الشيخ نمر باقر النمر والشباب الستة المحكومين بالإعدام، على خلفية المسيرات التي شهدتها منطقة القطيف في عام 2011. ولعل آخر المناشدات وأبرزها برقية المناشدة التي رفعها قبل أيام اثنا عشر من أبرز العلماء الشيعة في المنطقة الشرقية، وبينهم الشيخ حسن الصفار والسيد علي الناصر. ولمن لا يعرف خريطة المجتمع الشيعي في المملكة، أن يعلم بأن هذا الإجماع ”السياسي“ القائم ازاء أحكام الإعدام هذه بالذات، هو اجماع نادر الحدوث، لعوامل عديدة ليس هنا محل ذكرها. فما هي أسباب الإجماع الشيعي القائم الذي ضم أطيافا سياسية واجتماعية ودينية من اتجاهات مختلفة إزاء مناشدة الملك العفو عن المحكومين بالإعدام؟ للإجابة على هذا التساؤل يبدو لي أن هناك ثلاثة أسباب جوهرية.
ولعل أول الأسباب التي تدفع الجميع لمناشدة الملك الغاء أحكام الإعدام والعفو عن المحكومين السبعة هو ما لهذه البلاد من سوابق في العفو عن السجناء والمحكومين في جرائم كبيرة. وقد شمل العفو قبل سنوات قليلة عددا من المتورطين في مؤامرة لاغتيال عاهل البلاد الراحل الملك عبدالله. ناهيك عن العفو عن عشرات من عناصر تنظيم القاعدة الذين تورطوا في قضايا الإرهاب الدولي، حتى أن أحدهم وفور الإفراج عنه غادر إلى اليمن وتسلم زعامة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وقد كان ممن خضع قبلها لبرنامج المناصحة!. الحاصل أن العفو عن المحكومين ليس جديدا على حكام هذه البلاد، فهو تقليد راسخ منذ عقود، ساهم دون شك في اعادة احتضان الكثيرين من أبناء البلاد. ولذلك فالمطالبة بالعفو عن هؤلاء المحكومين السبعة ليست استثناء.
أما السبب الاخر، فهو غياب القناعة العامة بالتهم المنسوبة لهؤلاء المحكومين السبعة بالإعدام. ودعني أتحدث هنا بشفافية أكبر، فقد يختلف الكثير من المواطنين الشيعة بشأن الحراك السياسي الذي شهدته المنطقة في عام 2011 ابان الربيع العربي، وما شهده من مظاهر احتجاج مختلفة، والذي راح ضحيته أكثر من 25 شابا، وتوقيف أكثر من 300 شاب، لكن أحدا من أهالي المنطقة لا يذهب إلى حد توصيف هؤلاء المحكومين بالإعدام بتهم الإرهاب. وببساطة شديدة لأن أحدا منهم لم يدعو للقتل ولم تتلطخ يده بالدماء، كما لم يطالبهم أحد بدم قط حتى الآن، ولذلك جائت أحكامهم القضائية ”تعزيرية“، وقد ورد عن النبي الأكرم قوله ”لا يَزَالُ الْمَرْءُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا“، فإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، فالأحكام التعزيرية أولى بالعفو.
وفي ثالث الأسباب الموجبة للعفو في تقديري، هو ما ستتركه هذه الاعدامات - في حال تطبيقها لا سمح الله - من جروح عميقة وتأثيرات كبيرة على علاقة ملايين المواطنين الشيعة بحكومة بلادهم. ولمزيد من التوضيح أقول، ان لا أحد يدير بالا ازاء تنفيذ أحكام القصاص بحق مواطنين شيعة كما غيرهم من المواطنين، المتورطين في قضايا جنائية مختلفة، وازيد على ذلك بأن أحدا من أهالي المنطقة لم يكترث بعد تداول الشبكات المحلية قبل سنوات قليلة خبر وجود عشرات السجناء الجنائيين في سجن القطيف المركزي الذين ينتظرون تنفيذ أحكام القصاص بحقهم. غير أن أحكام الإعدام بحق الشيخ النمر والشبان الستة، ناهيك عن غيرهم من الموقوفين الذين يطالب الإدعاء العام بعقوبة الإعدام بحقهم، تكتسب هذه القضية أهمية وجدانية قصوى لدى جميع المواطنين الشيعة، لما لهذه القضية من بعد سياسي لا يخفى على أحد، ولما يمكن أن تخلفه هذه الإعدامات من علافة غير سوية بين المواطنين وحكومتهم، قد تمتد لفترات طويلة.
من هنا، فالإجماع الشيعي القائم، والأنظار الشاخصة للعفو الملكي عن السبعة المحكومين بالإعدام وعلى رأسهم الشيخ النمر، ليست نابعة من ”حالة عاطفية“ كما قد يتوهم البعض، بقدر ما هي نابعة من حب وغيرة على هذه البلاد وتطلع إلى قيام علاقة متوازنة بين ملايين المواطنين وحكومتهم، ورغبة في تفعيل التقليد السعودي القاضي بالعفو عن المحكومين بغرض استعادتهم إلى حضن الوطن. ولذلك يغدو العفو الملكي مطلوبا ومنتظرا ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.