بعارين داعش!
في كتابه الرائع ”النباهة والاستحمار“ يقول علي شريعتي في معنى الاستحمار إنه ”تزييف وعي الإنسان ونباهته، وتغيير مساره عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية“. ويقول الكاتب السعودي منصور النقيدان في تفسيره انضمام آلاف السعوديين لتنظيم داعش ”السعوديون يسهل استحمارهم.. واستبقارهم واستهبالهم! “. غير أن بعض ردود الفعل الشعبية والإعلامية الطافحة بعد كل موجة إرهابية تضرب المملكة، تكشف في كل مرة عما يصدم العقل ويجعل الحليم حيرانا!. فأن يجري في يوم واحد طعن قلب البلاد الديني في المدينة المنورة، والدبلوماسي في جدة، والمذهبي في القطيف، على يد بعض أبناء البلد المنحدرين من أبرز قبائله، ثم يلقى بالمسؤولية عن كل ذلك على الآخرين، بلادا وأديان وطوائف! فذلك ما يفوق - بكثير - مجرد الاستحمار أو الاستبقار!
يشتهر بين السعوديين أن البعير هو أكثر الحيوانات حقدا عند الخصام، فلا ينسى ولا يبارح الحقد قلبه ”ما دام راسه يشم الهوا“، حتى بات من الشائع جدا بينهم وصف الإنسان الحقود بالبعير، فقيل في الأمثال ”أحقد من جمل“.. من هنا ليسمح لي شريعتي والنقيدان بأن اختلف معهما في مسألة ”الاستحمار والاستبقار“، فالحمار والبقرة أبعد ما يكونان عن الحقد والكراهية، والحال إن ما يجري على يد الدعاة الداعشيين - عبر مختلف السبل والقنوات - هو زرع ”آيدولوجيا بعارينية“ حاقدة في قلوب شباب المملكة، ضد كل المختلفين عنهم فكرا ودينا ومذهبا، أو اتجاها سياسيا، فتجعل منهم كائنات حاملة للقنابل تمشي على قدمين.
ولو شئنا محاكاة شريعتي لقلنا إن المهمة الرئيسية لدعاة التطرف عندنا هي ”استبعار“ الشباب السعودي لا استحمارهم وحسب. وذلك لشد ما يخرج من تحت أيدي هؤلاء الدعاة المحرضين من مخلوقات عمياء حاقدة لا تقيم وزنا لحرمة الدماء والأعراض ولا الأموال والمقدسات، حيث يستوي عندهم الجندي والمقاتل والشيخ ورجل الشارع العادي والمرأة والطفل البريء، كما يستوي في نظرهم انتهاك قدسية الحرم النبوي الشريف والاعتداء على البعثات الدبلوماسية الأجنبية.. ولا يعلم إلا الله من أي طينة عجنت هذه الكائنات!
ان هناك ملامح للاتجاه ”البعاريني“ في المملكة والخليج. وأبرز هذه الملامح هو الرضا عن أقسى أشكال الوحشية الداعشية وسفك الدم الحرام ضد غيرهم. لكن عناصر هذا الاتجاه بارعون في الوقت عينه في إسباغ ثوب الضحية على الدواعش القتلة أنفسهم. فالمتبعرن - من البعرة والبعير - يفرح إلى حد الانتشاء وهو يرى عناصر داعش يحصدون المئات في مجازر جماعية تقشعر منها الأبدان ضد المصلين في المملكة أو المدنيين العراقيين أو المارة العاديين في باريس أو رواد المطارات ومحطات المترو في بروكسل وإستانبول ومقاهي دكا، كما تراهم يبررون ذلك، ويشمتون بمئات الضحايا المدنين الذين قضوا ذبحا وسبيا وحرقا على يد الدواعش، لكنهم مع ذلك لا ينفكون يتباكون على الدواعش باعتبارهم ضحايا معتدى عليهم ويصفونهم بالمجاهدين ويدعمونهم ماليا ومعنويا، ولا يبخلون بالدعاء لهم بالنصر! في مقابل دعواتهم بالهلاك لكل من يرمي استئصال شأفة التنظيم وتخليص العباد والبلاد من شره.
وفي ثاني الملامح تبلغ ”البعرنة“ منتهاها عندما يطال الهجوم والنقد اللاذع أفعال داعش الوحشية. ولأن الاتجاه البعاريني يجبن غالبا عن التصريح بدعمه المباشر للتنظيم، فهو يلجأ للمرواغة البليدة، واستخدام التكنيك الفاشل ذاته في كل مرة، القاضي بحرف النقاش عبر إلقاء الكرة في الملعب الآخر، فإذا ما انتقد كاتب أو متحدث أو خطيب مجازر داعش في بروكسل وباريس ودكا واستانبول وصولا للكويت والقطيف، قفز الكائن ”المتبعرن“ ناهقا؛ أين أنتم من جرائم هولاكو وجنكيز خان؟! وأينكم عن وحشية توفيق الدقن ومحمود المليجي في فيلم بطة يا بطة؟!. وحقيقة الأمر، ما هو إلا الغضب من المنتقدين لداعش، ومحاولة لجمهم عن نقد الجماعة، والدفع عوضا عن ذلك نحو الهجوم على خصوم التنظيم المتوحش. ”شنشنة أعرفها من أخزم“.
إن الاستماتة في إلقاء المسؤولية عن الارتكابات الإرهابية في المملكة على الآخرين أمر في غاية الخطورة، ليس لأنه يصرف الأنظار عن تهديد داخلي حقيقي يضرب صميم وحدة البلد وأمنه وسلامته وحسب، وإنما لما يحمل في طياته من تشجيع ضمني لبروز المزيد والمزيد من الانتحاريين المحليين المزنرين بالحقد الأسود، والباحثين عن الجنة والحور العين عبر سفك الدماء على كل أرض، وتحت كل سماء.
ينبغي القول أخيرا، إن بلادنا تقف اليوم أمام مفترق طرق ويتقاسمها فريقان. أحدهما يبدو أكثر ميلا للعقلانية والاتزان فيطالب بالتقييم والمحاسبة الذاتية وإعادة النظر في مختلف منظوماتنا المحلية، الفكرية والدينية والسياسية، ويدعو صراحة للتفتيش عن ماكنات تصنيع الدواعش وشركائهم ووقف الأئمة والدعاة المحرضين ومصدري فتاوى الموت، وهذا الفريق يستحق منا الاحترام. فيما لايزال الفريق الآخر ”المتبعرن“ يمعن في التجهيل والتضليل للرأي العام، فلا حديث لدى هؤلاء إلا عن الأيادي الخارجية من الفرس والروم والتتار والمغول وداحس والغبراء وريّا وسكينة وعدنان ولينا!، فيما يقبع البلاء كل البلاء تحت منابرهم، وهذا الفريق الأخير هم أبرز أركان استحمار وعي الإنسان وتزييف نباهته الإنسانية والاجتماعية في هذا البلد، ناهيك عن تربعهم على رأس المنظرين للفكر الداعشي إن لم يكونوا هم رعاته المباشرين.